صحيفة الكترونية اردنية شاملة

موازنة!

0

لو سنحت الفرصة لأم زكي أن تغمض عينيها لخمس دقائق فقط، بانتظار العجين الملفوف باللحاف المضرب لحين أن يتخمر، وهي ممدة أمام التلة الملتفة على طرف “الجنبية”، فيما معاليه على شاشة التلفزيون الأردني يتحدث بهدوء وتؤدة عن أرقام وإحصائيات وبرامج، لما استطاعت المسكينة!

تود لو أن دفئا حنونا يسري من قدميها المشققتين إلى ساقيها لتقوم من فورها وتخفض الصوت المحشو بفنتازيا التوضيحات والتبريرات والوعود والأمنيات، فقط لتغفو عيناها خمس دقائق تقوم بعدها لرق العجينة الصغيرة وفرد خلطة الزيت والزعتر قبل أن يعود الصغار من الشغل متعبين جائعين بردانين. التقطت أذناها كلمة “محروقات” وكانت قد علمتها وقفتها في الطابور الطويل بأن محروقات معناها الغاز والكاز بالنسبة لها ولجاراتها في الحي، فتمتمت وهي تجرجر جسدها المتثاقل من تحت الغطاء ببعض الشتائم على الصوبة التي تشفط الكاز بلا رحمة، ولا تقدير لحال أولادها وجدران غرفتهم الباردة.

لو قدر للحاج فواز أن يقرأ ويكتب مثل خلق الله المتعلمين من جيله المحظوظين، لما اضطر أن يأسر ابن الجيران لديه بالساعتين، ويغريه بكاسات الشاي المتلاحقات واحدة تلو الأخرى، حتى يشارك بالنيابة عنه في استفتاء “نبض البلد” مساء الموازنة، ويتأكد بنفسه بأن رأيه الغاضب على الحكومة والنواب قد ظهر فعلا على شريط الآراء وتكرر بثه أكثر من مرة، بناء على “حلفانات” الصبي بروح والده. لم يكن لينام تلك الليلة بدون أن يفرغ قهره على الهواء مباشرة، وهو الذي لم ينم ليلة كاملة منذ فراق ولده الوحيد في بلاد الغربة ليعمل نادلا في مقهى عربي هربا من الرصيف الذي تلقف شهادته الجامعية في علم الحاسوب. الرصيف الذي كان أحن عليه من ديوان الخدمة وشركات الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات الكبيرة. هل كان ضربا من المستحيل أن يظل الولد تحت قدمي الحاج والحاجة ليعتني بسنوات الوهن الأخيرة؟

في كل عام يقف فيه وزير المالية يشرح ويوضح عشرات الأرقام أمام المجلس، الذي يطغى على غالبيته الشعور بالملل والتعب، أشعر أن الأمر برمته موجه لعدة أشخاص لا يتجاوز عددهم أصابع اليدين. في كل مرة، نفس الأسئلة وذات الأجوبة ونهاية واحدة. أما هناك وهنا حيث يعيش بشر تحت تحت خط الصفر، فالعرض المحترم مشدود القوام فصيح اللسان قوي الحجة حاضر البرهان، لا يخصهم أو يعنيهم لا من بعيد ولا من قريب. فحتى لو تزحزحت أرقام موازنات الحكومة ومجلس الأمة عدة ملايين إلى اليسار أو إلى اليمين، من يأبه؟ أو عندما يعترف الوزير بلسانه بالهدر في المال العام الذي جاوز العشرين بالمائة، من يسأل؟ أو حين يفرح خبير اقتصادي بسابقة إرفاق برنامج تنفيذي للإصلاح المالي مع الموازنة الجديدة، من يتابع؟ هذه المعطيات والمدخلات الكبيرة ليست أكثر من “خراريف” أصابها الخرف بعد أن شاخت زيادة عن اللزوم!

لا شيء سيتغير حين يهاجم نواب الوطن بند المصروفات الحكومية ويلاحقون سيارات الوزارات في غير أوقات الدوام الرسمية، طالما بقي أحمد وعلاء وتوفيق وفؤاد وعبدالرحمن ومعهم كثيرون، يسيرون بالكيلومترات على أقدامهم من الفجر تحت المطر حتى يصلوا محطة، توصلهم لأقرب نقطة لمدارسهم وجامعاتهم. يقضون ساعات المشي في التفكير بشيوخهم المرضى الذين لا يجدون سريرا في مركز صحي ولا بدائل عن أدويتهم المجانية المفقودة. يفكرون بأمهاتهم اللاتي أعياهن الشقاء المتوارث وانتظار الفرج أمام أبواب بيوتهن الحائرة وقدور الطهو المتكلسة. يفكرون بإخوانهم الصغار المعلقة براءتهم على سقوف مهلهلة تسرب الماء والفقر من البيوت المجاورة.

لا شيء سيتبدل ما دام التفسير اللغوي للموازنة محددا بالأوزان الخفيفة والثقيلة الموزعة بين المواطن والدولة، وباتزان الصورة محليا ودوليا ليتم ايصالها بأمان إلى آخر نقطة من العام القادم. رغم أن للكلمة اتصالا بنائيا وحيويا بمفردة أخرى اسمها ميزان، معناها في المعجم الجامع: العدل.

الغد

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.