صحيفة الكترونية اردنية شاملة

السفيرة قعوار: من هدوء باريس إلى ضجيج نيويورك!

0

تسلمت السفيرة دينا قعوار مهامها في مقر الأمم المتحدة قبل أيام، لتغوص في حقل ألغام غزة، وسط شلل أممي حيال العدوان الإسرائيلي الغاشم على القطاع.
تبوأت السيدة قعوار (51 عاما) منصب مندوب الأردن لدى الأمم المتحدة خلفا للأمير زيد بن رعد، بعد أشهر من انضمام المملكة إلى نادي أعضاء مجلس الأمن غير الدائمين، بدلا من السعودية.
ويوم الثلاثاء الماضي، نجحت البعثة الأردنية في تقديم مشروع قرار لمجلس الأمن، يدعم المبادرة المصرية الداعية إلى وقف إطلاق نار دائم، بعد أن دخلت تهدئة مؤقتة حيز التنفيذ؛ ويطالب بتشكيل لجنة تقصّي حقائق حول قصف مدارس “الأونروا”، وتوفير إغاثة عاجلة للفلسطينيين. وتوّج هذا الإجراء جهودا أردنية مكثفة لتحريك المجلس وقبلها الدفع أيضا بإصدار بيان رئاسي وبيانين صحفيين حول مذابح غزة.
بالطبع، سيواجه المشروع الأردني الجديد تحدي آليات اتخاذ القرار في مجلس الأمن؛ أهم الأجهزة المسؤولة عن حفظ السلام والأمن الدوليين، بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة. فهذه الآلية معقدة وصعبة، بخاصة حين يتعلق النقاش بمصالح إسرائيل في الشرق الأوسط، والملفات النووية. إذ يشترط موافقة تسع من خمس عشرة دولة على الأقل، من بينها الأعضاء الخمسة الدائمون، وفق قاعدة تعرف باسم “إجماع الدول الكبرى” التي تتمتع بحق النقض (الفيتو).
إذن، تواجه عمان معضلة “جلب الذيب من ذيله” من خلال مجلس الأمن، شأنها شأن غالبية أعضائه، ولذلك تخرج معظم البيانات والقرارات خالية من الدسم في قالب دبلوماسي مبطن. في الأثناء يستمر حرج الحكومة أمام التهاب مشاعر الأردنيين وسخطهم حيال إرهاب الدولة العبرية بفظاعته وهمجيته.
أميركا لن تمرّر أي قرارات ملزمة تمس أجندة حليفتها إسرائيل، وستلجأ إلى فرض “فيتو”. تلك أولى الحقائق في منطق حسابات القوى. وصوت العرب خافت، منقسم، وعاجز حتى عن الدعوة إلى عقد قمة عربية طارئة. فسورية التي لطالما شكّلت قوة ردع عسكري مقابل إسرائيل -ولو نظريا- منغمسة في ملفها الداخلي الدامي. وحزب الله منهمك في حماية مصالح الرئيس بشار الأسد داخل سورية، ولن يخوض مغامرة توسيع جبهة المواجهة مع إسرائيل. والعراق -عمق الأمة الاستراتيجي الذي دمرّته أميركا العام 2003- يتأرجح على شفا حرب أهلية. والفاعلون العرب الآخرون منهمكون في محاربة الإخوان المسلمين، و”حماس” غزة أحد أبناء الإخوان. فيما لقطر التي تستضيف قيادات “حماس” حسابات أخرى.
الأردن لم يستعد مربع التأثير في قرارات “حماس” بعد انحسار بوادر تحسين العلاقات بين الطرفين قبل ثلاث سنوات. وهو واقع بين تحالفه مع السعودية-مصر، وعلاقاته الاستراتيجية مع أميركا وحلفائها. وبالتالي، لا حيلة بيده سوى إصدار تصريحات تندد بالعدوان، وفتح جسر بري لتقديم مساعدات إنسانية، موظفا علاقات السلام الرسمي مع إسرائيل.
تلكم حقائق الانهيار الأممي والعربي، وليس ثمّة اختلاف حول هذه المعطيات. لذا، يخطئ من يعتقد أن بإمكان الأردن أو غيره من الأعضاء في مجلس الأمن -الدول الكبرى والثانوية- “فش قلب” الشعوب العربية الغاضبة من مواقف قياداتها حيال غزو أسال شلالات دم ومزّق أجساد الأطفال، بعد أن طالت صواريخه الأخضر واليابس، وحتى المساجد والمشافي والمدارس؛ آخر ملاذات الأهالي الفارين من جحيم المعارك.
في الأثناء، تعمل البعثة الأردنية في نيويورك بلا كلل منذ بدء العدوان.
الدولة العربية الوحيدة المرشحة للعب دور مؤثر في وقف الحرب هي مصر، بسبب معبر رفح وليس محبة بحماس التي تكن لها القاهرة العداء، امتدادا لحربها على “الإخوان”، وانشغالها بترتيب أمور المرحلة الانتقالية الثانية منذ ثورة 2011. ودوليا، فإن الولايات المتحدة هي القوّة الأكثر تأثيرا على إسرائيل.
مصر وأميركا ستكونان عرابتَي أي صفقة سياسية بعد أن تحاول إسرائيل تحقيق أهدافها الاستراتيجية وراء الاجتياح البري، وتنسحب أحاديا إلى خطوط جديدة. قيادة إسرائيل تعتقد أنها ستوقف الحرب بعد أن تهدم الأنفاق، وتدمر بنية “حماس” التحتية وقدرات غيرها من المنظمات التي تهدد العمق الإسرائيلي، لكنها قد تواصل شن “ضربات جراحية” لاستئصال أي تهديد.
بعد الانسحاب أحادي الجانب وحسبة نتائج الهجوم البري، قد تبدي إسرائيل تصلبا أو تساهلا، بناء على ما تعتقد أنها استطاعت تحقيقه من أهداف. حسابات الربح والخسارة تلك هي التي ستتحكم بشكل خريطة طريق لحل سياسي دائم، يتضمن العودة إلى تفاهمات أمنية وسياسية، وترتيبات التحكم بالمعابر، وضعتها مصر وأميركا وإسرئيل العام 2005.
عودة إلى نيويورك، حيث في جعبة السفيرة قعوار طول باع في معترك الدبلوماسية وتراكم خبرات؛ بصفتها سفيرا لدى فرنسا، وسفيرا غير مقيم لدى الفاتيكان والبرتغال بين العامين 2001 و2013. ويضاف إلى سجلها تمثيل الأردن لدى منظمة اليونيسكو في باريس.
وقد استقرت قعوار في نيويورك عشية نجاح الأردن في إقناع مجلس الأمن بإصدار بيان رئاسي بشأن غزة في 27 تموز (يوليو) الماضي، تضمن دعوة موحدة إلى وقف إطلاق نار فوري وغير مشروط لأغراض إنسانية. ذلك البيان كان أول وثيقة رسمية للمجلس حول القضية الفلسطينية منذ العام 2009. قبل ذلك، ساهمت البعثة في حث المجلس على تبني دعوة مشتركة يوم 12 تموز (يوليو) الماضي لوقف إطلاق النار (..) واستئناف المفاوضات على أساس حل الدولتين. وحين شنّت إسرائيل هجومها البري، طالبت عمان بعقد جلسة طارئة أخرى لمجلس الأمن يوم 18 تموز (يوليو) الماضي، لإدانة هذا التصعيد الخطير والتحذير من تداعياته.
لذا فالسفيرة قعوار لا تبدأ من الصفر؛ تبني على رصيدها الشخصي وتجربة سلفها الدبلوماسي الأممي الأمير زيد بن رعد الذي ترشح قبل سنوات لمنصب أمين عام الأمم المتحدة. وتتكئ أيضا على قدرات الفريق الدبلوماسي متعدد الخبرات والتخصصات؛ بمن فيهم محمود الحمود، سامر النبر، إيهاب عميش، ومحمد التل.
كذلك، تعتمد قعوار أيضا على توظيف شبكة علاقات دولية نسجتها مذ خدمت في فرنسا. وتحظى أيضا بتأييد مركز القرار الذي يوجه ملف السياسات الخارجية عبر وزارة الخارجية.
إذن، خبرات عميدة السلك الدبلوماسي العربي لسنوات عديدة في باريس لا تأتي من فراغ. فتجربتها الدبلوماسية هناك صقلت شخصيتها وعمّقت مخزونها المعرفي. ونشاطها المكوكي ساهم في تمتين العلاقات الثنائية، ما فتح آفاقا جديدة، منها تشجيع وكالة التعاون الفرنسي على تعزيز نشاطها التنموي في الأردن، كثاني بلد عربي بعد المغرب.
نتيجة ذلك، حصل الأردن على مساعدات بملايين اليوروات، وباتت فرنسا كبرى المستثمرين الأجانب في المملكة. كما ساهمت علاقاتها بوزراء الاقتصاد والمالية الفرنسيين في تهيئة الطريق للتوصل إلى اتفاق، سمح للأردن بإعادة شراء ديونه من نادي باريس بخصم، مع إعادة توجيه الديون إلى استثمارات مستوطنة. وكوّنت شبكة علاقات شخصية مع تنفيذيين في شركات كبرى استثمرت في الأردن؛ مثل “لافارج” وشركة الاتصالات الفرنسية، اللتين ساعدتا على معالجة مشاكل إدارية وإنتاجية كانت تعترض الشركات المحلية. وفي زمنها، جاءت شركة آريفا لمسح احتياطات مخزون اليورانيوم في الأردن.
وكرئيس لجنة القدس في منظمة اليونيسكو، خاضت السفيرة قعوار معارك دبلوماسية لحماية باب المغاربة في القدس الشرقية من سياسات إسرائيل. وكرئيسة للجنة الإعلام والعلاقات العامة في مجلس السفراء العرب، رتبت عديد لقاءات مع شخصيات فرنسية متنفذة، وأطلت مرارا عبر شاشات التلفزة هناك متحدثة بالفرنسية لتوضيح موقف الأردن من أزمات المنطقة.
عاصرت ثلاثة رؤساء جمهورية فرنسيين وثلاثة بابوات للفاتيكان.
الرئيس الأول هو جاك شيراك الذي واظب على لقائها دوريا حتى بعد مرضه. وبعده الرئيس السابق نيكولا ساركوزي الذي زار “بيت الأردن” (دار السفير) ثلاث مرات، وكانت قعوار السفير العربي الوحيد مع عميد السلك الدبلوماسي الأجنبي اللذين دعاهما ساركوزي لحفل تنصيبه في قصر الإليزيه.
ظل “بيت الأردن” مفتوحا لأطياف المجتمع الفرنسي ونخبه من رجال تشريع وساسة، وفنانين وأطباء وإعلاميين ومرشحي رئاسة، ورجال أعمال، وموظفي الخارجية والقصر الرئاسي. وقبل أن تغادر منصبها في فرنسا، مُنحت قعوار أعلى وسام رئاسي لم يحصل عليه عديدون.
إنسانيا، تشكل السفيرة قعوار أنموذجا للسيدة العصرية، وهي تزاوج ببن التقاليد ومتطلبات العصر الحديث، وقيم الانفتاح على الآخر من دون تعصب. وهي جريئة تسمي الأشياء بأسمائها.
ولدت قعوار في عمان ودرست في مدارسها. وتشرّبت قيم الكرم والشهامة والوطنية من أسرتها الممتدة، بخاصة جدّها عيسى قعوار النائب السابق عن السلط، في عهد الجد المؤسس، ومن والدها العميد الركن خليل قعوار الذي توفي على رأس عمله -مساعد رئيس هيئة الأركان للاستخبارات والأمن العسكري- قبل أكثر من ثلاثين عاما (إذ كان من أوائل المنتسبين للجيش العربي).
نالت البكالوريوس في العلاقات الدولية في جامعة ميلز للفتيات في كاليفورينا، ثم الماجستير في التخصص ذاته ودراسات الشرق الأوسط في جامعة كولومبيا العريقة/ نيويورك. وتابعت برنامج دراسات عليا بعد الماجستير في جامعة هارفارد.
بعد تخرجها، عملت باحثة في مكتب الأمير الحسن لأربعة عشر عاما. واقترنت العام 1994 بمهندس معماري فرنسي، وأثمر الزواج عن ابن وابنة.
بعد تكليفها بتمثيل الأردن لدى الأمم المتحدة، طفت الانتقادات مجددا على مواقع التواصل الاجتماعي والإخباري. وأثيرت مسألة حملها للجنسية الفرنسية إلى جانب الأردنية من دون سند دستوري؛ فلا نص في الدستور المعدل العام 2012 أو دستور 1952 يحظر ازدواجية الجنسية على السفراء، وفق رجال قانون.
ختاما، هناك مدرسة في وزارة الخارجية ترى أن على من يتولّى منصبا حساسا كهذا الضلوع بتفاصيل القانون الدولي وآليات معالجة ملفات متعددة الأطراف في دهاليز المنظمة الدولية. تقابلها مدرسة تؤمن بأن من يكلف بهذا المنصب قد يصبح “رقما مهما” في نيويورك إذا التقط أساسيات العمل متعدد الأطراف ووظّف مهاراته الشخصية والمهنية وخبراته التراكمية في نسج تحالفات وكانت علاقاته مميزة مع صاحب القرار في بلاده. وهذه حال السفيرة قعوار في عيون من عرفها عن قرب أو عمل معها. إذ يراهن هؤلاء على أنها “ستبيّض” وجه الأردن في نيويورك، كما فعلت في باريس.
الغد

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.