صحيفة الكترونية اردنية شاملة

عن محمود درويش وغزة المقاومة..

0

اسمحوا لي ان اكتب عن محمود درويش وعن غزة .. فهناك شيء مشترك بين شاعر المقاومة وبين غزة المقاومة .
بعد اسبوعين فقط تحل ذكرى رحيل الشاعر العربي الكبير محمود درويش الذي ودعناه في التاسع من شهر آب 2008 . كنت قبل ايام اعيد قراءة اعماله النثرية والشعرية التي اقرأها في كل عام في مثل هذه الايام مع اقتراب موعد رحيله استجابة للشوق وفقداننا لهذا العاشق للحياة والشعر وكل ما هو جميل ، وكما خاطبه الشاعر رامي ابو صلاح في قصيدته حين قال :” اترك حصانك ان الروح تحفظه …وان غبت عن جسدي فالروح تتصل “. رحل الشاعر محمود درويش قبل العدوان الاسرائيلي القائم على غزة وقبل الحروب الثلاثة.
ولكنه كتب عن الحرب على غزة وكأنه حاضر بيننا وفيها. وهذا هو الفرق بين شاعر المناسبات الذي امتهن وظيفة الشعر، وبين الشاعر العظيم الملهم ، اوالكاتب المبدع الذي يعيش نبض الشعب ويعايش قضايا امته ويشاركها الهموم والمصير . واليوم اسمحوا لي ان استضيف الشاعر درويش، وان انشر ما كتبه حول صمود غزة وعنها في مقالته التي كتبها ونشرها قبل ثلاثة حروب على القطاع تحت عنوان ” صمت من اجل غزة “…فيقول : تحيط خاصرتها بالالغام ، وتنفجر ، لا هو موت ، ولا هو انتحار، انه اسلوب غزة في اعلان جدارتها بالحياة .
منذ اربع سنوات ولحم غزة يتطاير شظايا قذائف ، لا هو سحر ، ولا هو اعجوبة ، انه سلاح غزة في الدفاع عن بقائها ، وفي استنزاف العدو. ومنذ اربع سنوات والعدو مبتهج باحلامه ، مفتون بمغازلة الزمن.. الا في غزة لأن غزة بعيدة عن اقاربها ولصيقة بالاعداء. لأن غزة جزيرة كلما انفجرت – وهي لا تكف عن الانفجار- خدشت وجه العدو ، وكسرت احلامه ، وصدته عن الرضا بالزمن ، لأن الزمن في غزة شيء آخر ، لأن الزمن في غزة ليس محايدا. انه لا يدفع الناس الى برودة التأمل ، ولكنه يدفعهم الى الانفجار والارتطام بالحقيقة . الزمن هناك لا يأخذ الاطفال توا الى الشيخوخة ، ولكنه يجعلهم رجالا في اول لقاء مع العدو . ليس الزمن في غزة اسرخاء ولكنه اقتحام الظهيرة المشتعلة .
لأن القيم في غزة تختلف .. تختلف .. القيمة الوحيدة للانسان المحتل هي مدى مقاومة الاحتلال .هذه هي المنافسة الوحيدة هناك . وغزة ادمنت معرفة هذه القيمة النبيلة القاسية . لم تتعلمها من الكتب ولا من الدورات الدراسية العاجلة ، ولا من ابواق الدعاية العالية الصوت، ولا من الاناشيد . لقد تعلمتها بالتجربة وحدها ، وبالعمل الذي لا يكون من اجل الاعلان والصورة .
ان غزة لا تتباهى باسلحتها وثورتها وميزانيتها . انها تقدم لحمها المر ، وتتصرف بارادتها وتسكب دمها . وغزة لا تتقن الخطابة . ليس لغزة حنجرة .. مسام جلدها هي التي تتكلم عرقا ودما وحرائق . من هنا يكرهها العدو حتى القتل ، ويخافها حتى الجريمة .. ويسعى الى اغراقها في البحر او الصحراء او في الدم . من هنا يحبها اقاربها واصدقاؤها على استحياء يصل الى الغيرة والخوف احيانا .
لأن غزة هي الدرس الوحشي والنموذج المشرق للاعداء والاصدقاء على حد سواء. ليست غزة اجمل المدن. ليس شاطئها اشد زرقة من شواطيء المدن العربية الاخرى . وليس برتقالها اجمل برتقال على حوض البحر الابيض . وليست غزة اغنى المدن .. ( سمك وبرتقال ورمال وخيام تخذلها الريحة، وبضائع مهربة ، وسواعد تباع للشاري ). وليست ارقى المدن ، وليست اكبر المدن ، ولكنها تعادل تاريخ الامة .لأنها اشد قبحا في عيون الاعداء ، وفقرا وبؤسا وشراسة . لأنها اشدنا قدرة على تعكير مزاج العدو وراحته ، لأنها كابوسه ، لأنها برتقال ملغوم، واطفال بلا طفولة ، وشيوخ بلا شيخوخة ، ونساء بلا رغبات .
لأنها كذلك – فهي اجملنا واصفانا واغنانا واكثرنا جدارة بالحب . ونظلم غزة حين نحولها الى اسطورة ، لأننا سنكرهها حين نكتشف انها ليست أكثر من مدينة فقيرة صغيرة تقاوم .
وحين نتساءل : ما الذي جعلها اسطورة؟ سنحطم كل مرايانا ونبكي لو كانت فينا كرامة ، او نلعنها لو رفضنا ان نثور على انفسنا . ونظلم غزة لو مجّدناها .
لأن الافتتان بها سيأخذنا الى حد انتظارها ، وغزة لا تجيء الينا ، غزة لا تحررنا . ليست لغزة خيول ولا طائرات ولا عصي سحرية ، ولا مكاتب في العواصم . ان غزة تحرر نفسها من صفاتنا ولغتنا ومن غزاتها في وقت واحد . وحين نلتقي بها – ذات حلم – ربما لن تعرفنا لأن غزة من مواليد النار ونحن من مواليد الانتظار والبكاء على الديار. صحيح ان لغزة ظروفا خاصة وتقاليد ثورية خاصة ( نقول ذلك لا لنحلل وانما لنتحلل ) .
ولكن سرها ليس لغزا : مقاومتها شعبية متلاحمة تعرف ماذا تريد ( تريد طرد العدو من ثيابها ) . وعلاقة المقاومة فيها بالجماهير علاقة الجلد بالعظم، وليست علاقة المدرس بالطلبة .
لم تتحول المقاومة في غزة الى وظيفة ، ولم تتحول المقاومة الى مؤسسة. لم تقبل وصاية احد ، ولم تعلق مصيرها على توقيع احد او بصمة احد . ولا يهمها كثيرا ان نعرف اسمها وصورتها وفصاحتها. لم تصدق انها مادة اعلامية وانها فوتوجنيك . لم تتأهب للتصويرولم تضع معجون الابتسام على وجهها .
لا هي تريد ولا نحن نريد . ولم يتحول جرح غزة الى منبر للخطابة . من جمال غزة اننا لا نتحدث عنها كثيرا ، ولا نعطّر احلامها بعبير اغانينا النسائي . من هنا تكون غزة تجارة خاسرة للسماسرة . ومن هنا تكون كنزا معنويا واخلاقيا لا يقدر لكل العرب .
ومن جمال غزة ان اصواتنا لا تصل اليها ، لا شيء يشغلها ، لا شيء يدير قبضتها عن وجه العدو، لأ اشكال الحكم في الدولة الفلسطينية التي سننشئها على الجانب الشرقي من القمر، او على الجانب الغربي من المريخ حين يتم اكتشافه، ولا طريقة توزيع المقاعد في المجلس الوطني . لا شيء يشغلها . انها منكبة على الرفض ، التعذيب والرفض ، الحصار والرفض ، والموت والرفض .
قد ينتصر الاعداء على غزة ، وقد ينتصر البحر الهائج على جزيرة صغيرة .. قد يقطعون كل اشجارها .. قد يكسرون عظامها .. قد يزرعون الدبابات في احشاء اطفالها ، وقد يرمونها في البحر او الرمل او الدم .. ولكنها لن تكرر الاكاذيب ، ولن تقول للغزاة نعم .. وستستمر في الانفجار .. لا هو موت ، ولا هو انتحار .. ولكنه اسلوب غزة في اعلان جدارتها بالحياة …

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.