صحيفة الكترونية اردنية شاملة

ترف المراقبة وكلفة العمل

0

يمر الوطن العربي في واحدة من أكبر أزماته. ويبقى الأمل في أن يتعلم منها حتى لا يعيد سياسات الماضي، رغم أن الشواخص ما تزال تشير إلى أننا مصرون على نهج أثبت فشله في بناء مجتمعات حداثية مستقرة ومزدهرة؛ بل إن البعض يتغنى بالماضي الذي أوصلنا إلى هذه الحالة اليوم، فبات يرى في الثورات العربية سببا في التخبط الذي نشهده الآن، بدلا من حقيقة كونه نتيجة حتمية لفشلنا الجماعي في تطوير مجتمعات تعددية، تحتوي الآراء والمعتقدات كافة من دون وجل؛ وسياسات اقتصادية قادرة على خلق فرص عمل حقيقية ونمو يشعر به المواطن؛ ونظم تعليمية تنمي في النشء قيم المواطنة الحقة التي يسمو فيها الانتماء للوطن على الهويات الفرعية القاتلة كافة، ماضيا وحاضرا.

نكتفي اليوم بالمراقبة، وعالمنا العربي يحترق من حولنا؛ أرضا وبشرا وحضارة وقيما. في غزة، إبادة جماعية لأهلها تقوم بها إسرائيل بحجة إيقاف صواريخ “حماس”، من دون أدنى اعتبار لقيمة الإنسان، وبموافقة أغلب الحكومات الغربية طالما ترى في العملية فرصة لإضعاف “حماس”. وفي العراق، ينفذ تنظيم “داعش” باسم الإسلام وهو منه براء، سياسة ممنهجة ليس فقط لتهجير المسيحيين، ولكن أيضا لاعتبارهم أقل من أن يتمتعوا بكامل حقوق المواطنة، وهم من عاشوا على أرضهم آلاف السنين.

إن لم يكن ذلك بسبب نظم تعليمية متخلفة، وأوضاع اقتصادية سيئة، تُنتج أمثال أولئك الذين لا يعطون وزنا لقيمة باسم الدين، والذين لا يتورعون عن قتل إخوة لهم باسم الإيمان، فلا أدري ماذا يكون!

نكتفي بالمراقبة ومتابعة الامور عن بعد. ما يجري في غزة مؤسف، وما يجري في العراق مؤسف أيضا؛ جل ما نفعل أن نتمنى أن لا يصلنا. لقد أصبحت المراقبة لدى كثيرين منا جزءا من ثقافة استسلامية، مستعدة أن ترى في ما يجري مؤامرة خارجية، قبل أن تفكر قليلا في مسؤوليتنا نحن بالعمل الجاد والمضني والطويل، لوقف هذا التدهور المتسارع لكل قيمنا الإنسانية.

متى ندرك أن التعدي على أهل غزة تعد علينا أيضا، وأن إسرائيل لن تحترمنا إن لم نحترم أنفسنا؛ وأن التعدي على المسيحيين في العراق يمس المسلم العربي، شأنه شأن أخيه المسيحي؛ وأننا حين نسمح لهوياتنا الفرعية بأن تطغى على انتمائنا للوطن، فكأننا نسمح لأنفسنا بأن نقتل أنفسنا؟

لقد وصلت الأمور حدا من التراجع لم يعد معها الكلام المنمق أو المغلف مجديا. ليس المطلوب فقط تسمية الأمور بأسمائها، ولكن المطلوب عدم الاكتفاء بالمشاهدة، والعمل على الأرض، ومطالبة حكوماتنا والعمل معها في الوقت ذاته، للتأسيس لمستقبل مختلف، نصنعه نحن إن كنا مقتنعين بأن غيرنا يصنعه لنا.

إن كنا جادين في ذلك، علينا أن ندرك أن الازدهار والاستقرار لهما كلفة، فلا يأتيان بالمراقبة، ولا يتحققان بتمني العودة للوراء، بل بإدراك فشل النهج الريعي الإقصائي المستأثر بالسلطة، وأن الاستمرار بهذا النهج لن يجلب لا الاستقرار ولا الازدهار المنشودين والمستدامين. ومن ثم العمل على الأرض، وبتضافر جهود قوى المجتمع كافة، للخروج من عنق الزجاجة.

نتيجة الاستقرار الزائف المفروض بالقوة في الوطن العربي، ماثلة أمامنا؛ استقرار غير قابل للاستدامة. من يريد الاستقرار الطبيعي القابل للاستمرار، عليه التأسيس لمستقبل مختلف تشاركي، بدلا من تمني العودة إلى ماض استئثاري أوصلنا إلى ما نحن عليه اليوم. لقد أصبح واضحا أن تأثير قوى كتنظيم “داعش”، ينبع من كونها تعمل داخل بيئة حاضنة تشعر بالغبن والإقصاء، أكثر من كون “داعش” يمتلك قوة عسكرية هائلة لا يمكن قهرها. إن قهر “داعش” لا يتأتى بالسلاح فقط، وانما بالعلم والانفتاح والتشاركية والحكم الرشيد وسيادة القانون على الجميع.

ترجمة هذا المنطق أردنيا يعني لي ثلاث قضايا على الأقل:

– سياسيا، لم يعد تأجيل إقرار قانون انتخاب ممثل وعادل، مبررا أو حكيما، لأنه اللبنة الأولى لإزالة احتقانات عدة، ولإعطاء المواطن الشعور بأن صوته مسموع. كما أن هذا القانون هو حجر الأساس في التهيئة لبرلمانات قادرة على ممارسة دورها الرقابي والتشريعي عن طريق العمل المؤسسي الجماعي الحزبي. ولا أعتقد أن أعضاء مجلس النواب الحاليين يفضلون إطالة عمر مجلسهم الحالي على مصلحة الوطن العليا.

– اقتصاديا، حان الوقت للاعتراف بأن النهج الريعي قد استُنفد، وأن الدولة لم تعد قادرة على استيعاب أعداد كبيرة من الداخلين لسوق العمل. لقد تضاعف معدل الدين العام في السنوات العشر الماضية، كما وصل عجز الموازنة إلى مستويات خطيرة. إن الخروج من عنق الزجاجة يحتاج إلى خطة تدريجية، تدرك استحالة الاستمرار بالوضع الراهن، تنطلق منه ولا تتوقف عنده؛ خطة تبتعد تدريجيا عن النظام الريعي، وتقترب تدريجيا من نظام مبني على الكفاءة والإبداع وتعظيم الإنتاجية؛ وفي الوقت نفسه خطة تهتم بالفئات الأقل حظا، ليس عن طريق المساعدات المباشرة فقط، ولكن عن طريق توفير الإمكانات التي تمكن هذه الفئات من تحسين أحوالها، ومعان أكبر شاهد على ذلك. وهذا ليس كلاما تنظيريا كما يحلو للبعض تصويره، وتجربة الأجندة الوطنية أثبتت أن الأردنيين والأردنيات قادرون على إنتاج مثل هذه الخطة، ويبقى التنفيذ مرهونا بإرادة الدولة التحرر من نظام ريعي يعتمد على الخارج اعتمادا ليس بوسع أحد أن يضمنه.

– مجتمعيا، حان الوقت للانتهاء من ربط تعريف المواطنة الأردنية، بكل ما تعني هذه الكلمة من معنى، بحل النزاع العربي الإسرائيلي الذي قد لا يأتي. إن كل من يحمل الجنسية الأردنية هو مواطن أردني، وفقا للدستور الذي أقسمنا على احترامه “بغض النظر عن اللغة أو العرق او الدين”. لقد رأينا في سورية ولبنان والعراق ماذا جلب تغليب الهويات الفرعية على الانتماء للوطن من نزاعات لم تنته، فهل نتعظ؟

وبعد، فإن البيئة الاجتماعية الحاضنة لكل ما سبق، تأتي من خلال نظام تعليمي جديد، يركز على قيم الانفتاح وقبول الآخر، واحترام الرأي من دون تخوين صاحبه، ومهارات التفكير النقدي والبحث العلمي. يستحيل من دون ذلك تطوير مجتمعات ديمقراطية تعددية. مطلوب من الحكومة عدم الانتظار يوما واحدا من أجل البدء بهذا المشروع الذي قد يحمل اكثر من غيره، بذرة الخلاص للجيل الجديد.

ترف المراقبة يؤسس لمستقبل مظلم، وألم العمل يؤدي في النهاية لمستقبل نحلم به جميعا.

الغد

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.