صحيفة الكترونية اردنية شاملة

الرئيس ينتصر للمطربين ويتحفظ على المقاومين

0

سأتحدث في هذه المقالة عن شأن فلسطيني يتعلق بالرئيس محمود عباس ، وبمسيرة السلام الفلسطينية خلال العقود الثلاثة الأخيرة ، مرتكزا في حديثي على منطلقات ثلاثة هي : الأول قومي باعتبار أن هذا الشأن يهم كل فلسطيني وأردني وعربي ، حيثما وُجد على امتداد الساحة العربية وخارجها . والثاني كون الرئيس محمود عباس يحمل الجنسية الأردنية والفلسطينية في آن واحد ويستحق المساءلة أردنيا وفلسطينيا . والثالث لأنه يتولى رئاسة السلطة الفلسطينية ويحمل أوزارها أمام الله والشعب والتاريخ . وهذه المنطلقات قد تمنحني الحماية من اعتراضات المتنطعين والاتهاميين ، بإنكار حقي في التدخل بهذا الموضوع الفلسطيني ، لاسيما وأنني قد صبغت ثرى فلسطين بدمي قبل 47 عاما . ولفهم حيثيات هذا الموضوع لابد لي من استعراض تطوراته بصورة موجزة .
فمن المعروف أن محمود عباس رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية حاليا ، هو عرّاب اتفاقية أوسلو وأحد المساهمين بصنعها ، بصفته أمين سرّ اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية آنذاك . فاجأت تلك الاتفاقية أمم العالم بمضمونها وتوقيتها ، فأفسدت عمل الوفد الأردني إلى محادثات السلام بواشنطن برئاسة الدكتور عبد السلام المجالي وعضوية الوفد الفلسطيني برئاسة الدكتور حيدر عبد الشافي .
وبتاريخ 13 سبتمبر 1993 جرى توقيع اتفاقية أوسلو في البيت الأبيض بعد انكشاف محتواها ، تحت رعاية الرئيس الأمريكي بل كلنتون ، وبحضور رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات ، ورئيس وزراء إسرائيل اسحق رابين . نصت الاتفاقية في بعض بنودها على الاعتراف بدولة إسرائيل ، وإنشاء السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية كمرحلة انتقالية ، تمهيدا لقيام الدولة الفلسطينية على حدود الرابع من حزيران عام 1967 خلال خمس سنوات . وتم الاتفاق على استكمال البحث في تفصيلاتها من خلال محادثات لاحقه بين الفلسطينيين والإسرائيليين بمشاركة الأمريكيين . فكانت هذه الاتفاقية سببا رئيسيا في تحفيز الملك حسين ، على الإسراع في عقد اتفاقية وادي عربة مع الإسرائيليين في نهاية عام 1994 .
وعندما تولى السيد محمود عباس رئاسة السلطة الفلسطينية بعد وفاة الرئيس ياسر عرفات في عام 2005 أعلن سيادته استراتيجيته الوطنية لإدارة محادثات السلام مع الإسرائيليين ، والتي ارتكزت على تجنب استخدام السلاح في هذا الصراع ، ووقف تنفيذ العمليات الانتحارية داخل الأراضي المحتلة ، وكذلك عدم السماح بقيام انتفاضة ثالثة في الأراضي الفلسطينية ، بل اللجوء بدلا من ذلك إلى الحلول السياسية. وهكذا يكون سيادته قد تخلى عن سلاح تفاوضي كان يقض مضاجع الإسرائيليين . فأصبح الإسرائيليون يتمتعون بالأمن والهدوء النسبي طيلة فترة رئاسته ، ماعدا قيامهم بشن عملية الرصاص المسكوب على غزة في عام 2008 .
وفي ضوء هذه الاستراتيجية السلبية حدث خلاف بين السلطة الفلسطينية وحماس ، حيث طالبت الأخيرة باللجوء إلى المقاومة المسلحة ضد إسرائيل بعكس سياسة السلطة ، الأمر الذي أدى إلى تنافر المواقف ووقوع اشتباكات دامية بينهما ، تمكنت على أثرها حماس من السيطرة على قطاع غزة وإقامة حكومة منفصلة بها ، بينما انكفأت السلطة إلى موقعها في رام الله ، وحصلت القطيعة بين الطرفين تبعها حصار على غزة شاركت به أطراف عديدة .
أدى هذا الأمر إلى إضعاف الطرفين أمام العدو وتوفير الحجة له ، بأن الفلسطينيين منقسمون على أنفسهم ولا يجمعهم موقف موحد تجاه السلام . ولكن عندما بدا التقارب مؤخرا بين الطرفين لتشكيل حكومة وحدة وطنية ، ثارت إسرائيل على ذلك وهددت بوقف المحادثات ، وعدم الإفراج عن بقية الأسرى في السجون الإسرائيلية ، دون خجل من التدخل في الشأن الداخلي الفلسطيني .
صحيح أن السلطة الفلسطينية لا تستطيع التغلب على العدو في ميدان القتال الذي عجزت عنه الجيوش العربية ، ولكنها تستطيع إيقاع الخسائر بين صفوفه وحرمانه من التمتع بالهدوء والاستقرار . فرغم أن أسلحة رجال المقاومة خفيفة وبعضها بدائي الصنع ،إلا أنها تستطيع أن تؤدي خدمة قيّمة لهدفهم ، وذلك بإشعار الشعب الإسرائيلي والعالم بأن هناك أصحاب أرض لن يتنازلوا عنها ، ومستعدون للتضحية من أجلها مهما غلا الثمن .
وفي مجال فعالية الأسلحة قال الخبير في حرب العصابات ماوتسي تونج العبارة التالية : ” إن الأسلحة المتخلفة في وجه عدو متقدم ليس مهما ، بل الأهم من ذلك هو تعبئة الشعب للقتال ، يجب أن يشكل الشعب محيطا عظيما يغرق العدو به ” . فصواريخ القسام هي في الحقيقة بدائية الصنع وذات تأثير محدود ، وذلك بسبب صناعتها المحلية. ولكن خبراء القسام تمكنوا من تطويرها نسبيا ، بحيث استطاعت أن تضرب المدن في عمق الأراضي الإسرائيلية . ومن المؤكد أنهم سيزيدون مداها وأعَدادَها وتأثيرها القاتل في وقت لاحق .
وإذا كان لابد من كلمة أوجهها إلى جميع الأبطال في فصائل المقاومة الفلسطينية فأقول لهم : استمروا بكفاحكم ضد العدو ، فمقاومة المحتل حق مشروع كفلته الشرائع السماوية والقوانين الدولية . ولا تتركوا العدو ينعم بالهدوء والاستقرار ، وينفذ مشاريعه الاستيطانية وابتلاع الأرض قطعة بعد أخرى . استعيدوا النشاط في عملياتكم الانتحارية التي كنتم تنفذونها قبل سنوات ، في مختلف الشوارع والمطاعم ودور السينما وأماكن التجمعات ووسائل النقل داخل الأراضي المحتلة . فهي التي توقع الرعب وعدم الاستقرار في قلوب المواطنين الإسرائيليين ، وتجعل قضيتكم حية في العقول والقلوب .
إن مسلسل المحادثات التي جرى عقدها طيلة الفترة الماضية ، لتنفيذ خارطة الطريق كما تم الاتفاق عليها بين الأطراف المعنية لم تحقق نتائج إيجابية ، بسبب العقبات التي صنعها المفاوضون الإسرائيليون . وهذا يدل على أن الإسرائيليين يريدون استمرار المحادثات العبثية ، ويرفضون مقولة السلام مقابل الأرض ، بل يسعون لتحقيق السلام مقابل السلام .
وتأكيدا لذلك هاهم الإسرائيليون يواصلون إقامة المستوطنات بتسارع محموم ، في مختلف مناطق السلطة الفلسطينية ، من أجل خلق حقائق جديدة على الأرض يصعب تجاوزها مستقبلا . كما يسعون في الوقت نفسه لإقامة ما يسمى بكيان فلسطيني إداري منزوع السيادة ، لا تماسك بين أجزائه وإبقاء المستوطنات السابقة في المناطق الاستراتيجية من الأراضي الفلسطينية تحت سيطرتهم ، مع إقامة سياج على الحدود الشرقية على طول نهر الأردن ، بحجة الحفاظ على أمن دولة إسرائيل . وهناك محاولات أخرى لربط هذا الكيان الفلسطيني بوحدة مع الأردن ، وحل القضية على حساب الشعبين الأردني والفلسطيني .
لقد استمر الرئيس عباس بتقديم التنازلات للإسرائيليين منذ اتفاقية أوسلو وحتى الآن واحدا تلو الآخر ، كان آخرها عندما تنازل عن حق العودة الشرعي لأبناء فلسطين . إذ قال في أحد تصريحاته بأنه لا يرغب بالعودة إلى بيته في صفد . كما أكد ذلك في لقائه مع عدد من الطلاب الإسرائيليين في رام الله حيث قال : ” بأنه لا يرغب بإغراق إسرائيل بخمسة ملايين لاجئ فلسطيني ” .
وبهذا يكون رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس قد فرّط بالحقوق الفلسطينية ، والقى السلاح الذي كان يمكن استخدامه لتقوية موقفه التفاوضي مع الإسرائيليين . وعليه فقد اصبح سيادته مكشوفا وخالي الوفاض أمام شعبه وأمام العالم ، وأعطى الضوء الأخضر لدولة الاحتلال بالاستمرار في مخططاتها ، وتفريغ الأرض الفلسطينية من سكانها وإلغاء حق العودة وتكريس هوية الدولة اليهودية . وهذا يشكل أخطر تنازل عن الحقوق الفلسطينية يرد على لسان مسؤول فلسطيني ، يفترض به أن يكون الأكثر حرصا على تلك الحقوق المصيرية .
اما في الظرف الراهن الذي تقوم به إسرائيل بقصف مدينة غزة بالطائرات والمدفعية الثقيلة وهدم المنازل على رؤوس ساكنيها وقتل النساء والأطفال ، فإن الرئيس عباس يقف متفرجا ولا يحرك ساكنا ضد تلك الجرائم ، لا بل أنه قد يقف شامتا بما يحدث هناك . ومن الغريب في هذا السياق أن الرئيس عباس انتصر للمطرب الفلسطيني محمد عساف في وقت سابق ، واستثار الشعب الفلسطيني في كل بقاع الأرض ، بالتصويت له في برنامج مسابقات غنائي على إحدى الفضائيات العربية ، ولكنه أحجم عن استثارة الشعب الفلسطيني في الانتصار لشهداء وجرحى أبناء غزة ، ومواجهة تهديدات العدو باجتياح مدينتهم .
من الواضح أن الرئيس عباس قد اكتشف متأخرا ، بأن استراتيجيته السلمية ابتداء من أوسلو وانتهاء بالوضع الحاضر ، قد فشلت فشلا ذريعا ولم تحقق أية نتيجة إيجابية لأبناء شعبه . وأدرك أيضا بأن مسيرته الرسمية التي امتدت لأكثر من ثلاثة عقود ، قد سلكت طريقا خاطئا على غرار ما فعله الرئيس جورباشوف ، الذي تسبب بتفكيك الاتحاد السوفياتي في أواخر الثمانينات من القرن الماضي ، وحقق بذلك أهداف الدول الغربية . فهل سيعيد التاريخ نفسه وتتحقق هذه السياسة الأهداف الإسرائيلية ؟ .
ونتيجة لهذا الإفلاس السياسي تحدث الرئيس عباس في الأسبوع الماضي إلى الشعب الفلسطيني من خلال خطاب متلفز وهو مثقل بالاحباطات ، معلنا بأنه توجه بطلب إلى الأمم المتحدة ، لوضع الأراضي الفلسطينية تحت حماية دولية . وفي الحقيقة أن عباس لا يتحمل هذه النتيجة المأساوية لوحده ، بل يشاركه بها بعض زعماء الدول العربية ، والتي سيسجلها التاريخ في صفحة سوداء ، تدين كل من تواطأ على أقدس قضية عربية وإسلامية .
في الختام اسأل سيادة الرئيس عباس : بما أن الأمور تقاس بنتائجها ، ألا تعتقد بأنك قد قدمت كل ما لديك من سياسات دمرت القضية الفلسطينية ، وحان الوقت إما لتغادر هذا الموقع فتريح وتستريح ؟ أو توحد الشعب الفلسطيني ، وتطلق العنان لعمليات المقاومة وإشعال انتفاضة ثالثة تهز كيان العدو ؟
وقبل أن أتركك سيادة الرئيس لتحاسب نفسك بأمانة عما جنت يداك ، أود تذكيرك بمقولة أخرى للقائد العظيم ماوتسي تونج الذي قاد شعبه إلى النصر على قوات الاحتلال اليابانية جاء فيها ما يلي : ” ليس الموت شيئا مهما ، لكن أن تعيش مهزوما يعني أن تموت كل يوم ” .

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.