صحيفة الكترونية اردنية شاملة

الثقافة وإدعاء الأمان

0

لو كلفّنا طالباً في المرحلة الثانوية أن يعد ورقة بحثية حول “الثقافة”، لاصطدم بجدران متعددة تحاصره بالخوف والعجز.

سيجد في مكتبة المدرسة رفوفاً تحتوي مجموعة مؤلفات تمجد الماضي بوصفه الفردوس المفقود: كتب السيرة النبوية، والصحابة والتابعين، والفتوحات، وتاريخ الحضارة الإسلامية وربما جاورها خرافات دعاة ورجال دين أميين.

ولن تضّن عليه مدرسته بمجموعة أخرى من الكتب تزيف الحاضر: روايات ودواوين أحدثها تنتمي إلى منتصف القرن الماضي، وروايات مترجمة بنسخ تجارية، وكراريس التربية الوطنية وتمجيد شخصيات الحكْم، ولعله يعثر صدفة على بضعة كتب تستحق القراءة، لكنه حتماً لن يظفر بمرجعٍ واحدٍ يفيده في إعداد صفحة واحدة عن الثقافة.

وسيذهب خائب الأمل إلى الانترنت، ليكشتف أن المحتوى العربي في “غوغل” يشترك مع مكتبة مدرسته في فقرهما المعرفي والأخلاقي، فالسلطة العمياء التي تستبد بهما هي واحدة.

بالطبع، لن نفترض أن هذا التلميذ ينتسب إلى إحدى المدارس الخاصة المعروفة، وتكفينا نظرة واحدة لنلحظ أن مستوى التعليم الجيد، الذي تقدمه تلك المدارس، لم يخلق ثقافة لدى طلبتها كذلك.

الطالب نفسه، سيلتحق الجامعة ويدرس اختصاصاً يعرّف الثقافة مثل: الأنثروبولوجيا أو علم الاجتماع، لكنه سيظل مرتبكاً، ويتحدث مثل كِتاب، كلما سئل عن مفهوم الثقافة، بسبب اعتماده على أدبيات غربية يحفظها ولا يستطيع تكييفها في الواقع.

يمضي بعد تخرجه إلى الحياة غير قادرٍ على إنتاج موقفٍ معرفي واحد حيال ما يتهددنا من أزمات سياسية واقتصادية ومجتمعية، لكنه سيردد ما توافق عليه الأنثربولوجيون بأن الثقافة تُمثّل الجهد المبذول لتقديم الإجابات عن المآزق المحيرة التي تواجه المجتمعات البشرية.

وحين يعجز عن مواجهة مآزق مجتمعه سيغدو ملحقاً بأحد معسكرين: خطاب السلطة الذي ينشد الأمن، أو خطاب تغيير السلطة مهما كلّف الثمن، وفي الخطابين تغيب الثقافة ويُفتقد الأمان.

الطالب، الذي تحدثت عنه، قد يكفّ الحديث عن الثقافة، ليواجه التحديات ذاتها فيما إذا عمِل: محامياً أو طبيباً أو نجاراً أو شرطياً أو قرر الالتحاق بالقاعدة، أو يصرّ على أن يتقمص دور “المثقف”، ويعتلي مسرحاً بلا جمهور، ورغم ذلك يرفض النزول عن الخشبة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.