صحيفة الكترونية اردنية شاملة

الكاتب المثقف وفخ ‘القناعات’..!

0

في الكتابة الصحفية بالتحديد، يتحدثون عن “صناعة رأي”، في تعبير ينطوي على معنى مربك. إنه يعني تقريباً أن الكاتب يستطيع تصنيع اتجاهات وأفكار عامة، وإقناع الناس بآراء مخصوصة يفضلها هو، أو يحبها غيره ويروجها هو بضمير محايد. بهذا المعنى، يدخل في العملية مفهوم “التلقين” غير المفضل، واستغلال الناس بتسليمهم “حقيقة” جاهزة.
في الحالات السيئة جداً، لا تصنع حالة الكتابة قلقاً للكاتب لأن “آراءه” توحى إليه، ويكون جهده متعلقاً فقط باستنفار مهاراته الكتابية في عملية آليةٍ تقريباً، يكون فيها مجرد وسيط “صوتي” ومروج دعاية. وقد سمعت وصفاً مختصراً جيداً لهذا النوع: “كاتب السلطان”. لا أدري إذا كان يمكن وضع هؤلاء في فئة المثقفين، لأنهم ليسوا في حاجة إلى قراءة فكر ولا إلى إنتاجه، تماماً مثل “الكاتب” على باب دائرة الجوازات. ومع أن هذا النوع حاضر في كل مكان تقريباً، فإنه يصبح أكثر ضرراً في البيئات الاستبدادية، لأنه يستفرد بالمنصات حين تُسكِت السلطات التي ينطق عنها أي صوت قد يُحرج أطروحته.
في الحالات الأقل سوءاً، لا يكون الكاتب بوق دعاية لأحد، وقد يكون “مثقفاً” يشتبك بالمعرفة ومفاوضتها لإنتاج فكر. لكن هذا الكاتب/ المثقف قد يصطاده وهم بأنه امتلك الحقيقة وبلغ منبع اليقين. إنه لا يعود يرى الفكر عملية استفسار واستنطاق، وإنما تأكيد إجابات. بهذا يقع الكاتب أسيراً لإغواء رديء، وصفه الكاتب التشيكي ميلان كونديرا بطريقة رائعة:
إنه “… إغواء العناية بوصف فضائل أفكاره؛ واستباق وإجهاض أي اعتراضات عليها ودحضها مقدماً، وبالتالي وضع أفكاره خلف متراس. يجب على المفكر أن لا يحاول إقناع الآخرين بمعتقده؛ فذلك يضعه على الطريق إلى المنهجة؛ على الطريق المغثي إلى أن يصبح “رجل قناعات”؛ السياسيون يحبون تسمية أنفسهم كذلك. ولكن، ما هي القناعة؟ إنها فكرة وصلت إلى التوقف، تجمدت، و”رجل القناعات” هو رجل محدود مقيد؛ الفكر التجريبي لا يسعى إلى أن يُقنِع، وإنما إلى أن يُلهِم، أن يُلهم فكرة أخرى، أن يضع الفكر في حالة حركة”.
هل نحن في حاجة في الكتابة المباشرة للجمهور إلى “رجل القناعات”؟ السؤال جدلي، مثل كل شيء آخر في منطقة الأفكار. لكن هناك سبب معقول للقول بأن عملية تحفيز عقل آخر على التفكير وإنتاج أفكار أخرى، تبدو أكثر إغناءً من تصنيع عقل (رأي) مماثل وحشوه بـ”قناعات” جاهزة. سيكون أفضل -وأكثر تواضعاً- محاولة عرض الأطروحة في شكل اقتراح وبديل قابل للفحص والتفنيد، في سياق جدلي وحواري، وليس في شكل مقولات تدعى النبوّة والهبوط المقدس من الأعلى كحقيقة مطلقة. إن القناعة، بمفهوم كونديرا أيضاً، تعني وفاة الفكر و”الديالكتيك” وتجميد المخيلة.
في توجه مماثل، يقول الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو في مقالته “ما هو التنوير؟”: “إن عمل المثقف ليس قولبة الإرادة السياسية للآخرين؛ إن عمله، من خلال التحليلات التي يجريها في مجاله، هو إعادة فحص الأدلة والافتراضات؛ إقلاق استقرار الطرق المعتادة في العمل والتفكير؛ تبديد المألوفات التقليدية؛ إعادة تقييم القواعد والمؤسسات والمشاركة في تشكيل إرادة سياسية (حيث يلعب دوره، كمواطن)”.
لا أدري إذا كان يجوز اقتراح نموذج “الفكر التجريبي” على “صانعي الآراء” الذين يقطرون أيديولوجيا وقناعات؛ إذا كان يمكن أن يقبلوا بالتحول من ملقمين للأفكار إلى محرضين على التفكير. ربما ينبغي أن يكون المثقف صاحب مبدأ، لكن مبدأه ينبغي أن لا يخدم الجمود أو العنف أو الحرب. في بعض الأحيان، تورط الدوغما “صانع الآراء” بطريقة تلطخ يديه بالدم وتجعله صانع صراعات.
أتصور أن مبدأ احترام عقل القارئ يقتضي أن يعرض الكاتب-المثقف (وليس الناسخ) فكرته كاقتراح وبقصد التشاور، لا أن يجهد في فرضها و”تصنيع رأي” من فوق -ذلك يجعله صنيعة للسياسي، أو سياسيا متنكرا في زي كاتب. لكن المشكلة هي أن هذه أصبحت صبغة كتابة “الرأي” في أكثر الوسائط وصولاً إلى الناس. هكذا جيش كُتاب المؤسسة لحرب أميركا علينا، وهكذا يخدم الكثيرون منّا صمود المؤسسات التي ينبغي أن تتغير. ربما نحتاج أكثر إلى أن نكون مستكشفين متسائلين، بدل أن يصطادنا فخ تسويق “القناعات” والمقدسات!

الغد

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.