صحيفة الكترونية اردنية شاملة

تاريخ أوكرانيا.. قراءة تسبق التسوية

0

وصلت الأزمة الأوكرانية إلى حالة من الجمود المؤقت بسبب امتناع القوى الفاعلة عن التحدث إلى الأطراف التي بإمكانها تسهيل الخروج من الأزمة، فمن جانبه ألغى كيري زيارة كانت مرتقبة إلى موسكو، فيما ترفض روسيا في المقابل أي اتصال مع حكومة تعتبرها مؤقتة في كييف شُكلت تحت الوصاية الأميركية وجاءت كنتيجة لتحريض أميركي ومساندتها للمحتجين في ميدان الاستقلال، بل أكثر من ذلك ترى موسكو في المتظاهرين مجموعة من النازيين السابقين وفي الأميركيين مرتزقة (بينهم مساعد وزير الخارجية الذي يُقال إنه كان في الميدان يوزع الحلوى على المتظاهرين). وفي جميع الأحوال سيحل رئيس الحكومة المؤقتة في أوكرانيا، أرسيني ياتسينيوك، ضيفاً على واشنطن خلال الأسبوع الجاري في زيارة تعتبرها موسكو مكافأة له، ومناسبة لتلقي التعليمات الجديدة من أوباما، وكل ذلك في وقت تصر فيه روسيا على حصر تعاملها فقط مع الرئيس المخلوع، يانوكوفيتش، الذي هرب من كييف تاركاً وراءه قصراً منيفاً اقتحمه المتظاهرون عارضين مظاهر البذخ التي يزخر بها، إلا أنه يظل بالنسبة لموسكو الرئيس الشرعي لأوكرانيا الذي تم إسقاطه على نحو غير قانوني وبصفة مؤقتة، لذا لن ترضى التعامل مع سواه.
ولإعادة الأمور إلى مجراها في أوكرانيا يصر وزير الخارجية الروسي، سيرجي لافروف، أن لروسيا مطالبها الخاصة التي من غير الوارد أن تقبل بها واشنطن التي تعتبر ما جرى من تطورات في كييف أمراً واقعاً لا يمكن الرجوع عنه. هذا فيما أدلى سكان شبه جزيرة القرم بأصوتهم يوم الأحد في استفتاء عام حول ما إذا كانت شبه الجزيرة ستلتحق بالاتحاد الروسي أم ستظل مستقلة، وهو ما يثير تعقيدات قانونية عديدة بالنسبة للغرب. فقد سبق للولايات المتحدة وروسيا وبريطانيا أن وقعت في عام 1994 اتفاقية حماية تضمن لأوكرانيا الحفاظ على سلامة أراضيها وحرمة حدودها مقابل تخليها عن أسلحتها النووية التي ورثتها عن الاتحاد السوفييتي، تلك الاتفاقية وقع عليها كل من الزعيم الأوكراني وقتها ليونيد كوتشما، والرئيس الأميركي بيل كلينتون، والرئيس الروسي بوريس يلتسين، ورئيس الوزراء البريطاني جون ميجور. وبموجب الاتفاقية ألزمت الولايات المتحدة وبريطانيا نفسيهما بحماية أوكرانيا حتى لو أدى ذلك إلى الحرب. هذه الاتفاقية دفعت السلطات الأوكرانية الحالية إلى المطالبة بسرعة تفعيل بنود الحماية، لاسيما بعد انتهاك حدودها وقضم جزء من أراضيها. ويبدو أن الحديث عن رد عسكري أميركي لم يكن غائباً نهاية الأسبوع المنصرم، حيث أوردت «سي ان ان» مقترحاً لم يتسنَ التحقق منه حول نشر قوات «الناتو» في بولندا، وهو ما من شأنه أن يدفع روسيا لتحريك قواتها لتقترب أكثر من الحدود الأوكرانية الشرقية، وربما في أسوأ الحالات الدفع بها إلى داخل أوكرانيا لإعادة يانوكوفيتش إلى السلطة.
ولو أن الولايات المتحدة تحركت بنفس المنطق المتهور الذي دفعها طيلة السنوات الماضية إلى توسيع حلف شمال الأطلسي شرقاً إلى حدود روسيا، ودعمت أيضاً المظاهرات في كييف التي قادت إلى انقلاب البرلمان على الرئيس وعزله، فمن المحتمل جداً أن تصطدم أميركا وروسيا في حرب خلال الأسبوع الجاري. فقد أرسل «الناتو» طائرات للمراقبة إلى رومانيا وبولندا دون أن نعرف الجدوى من ذلك عدا بعث رسالة إلى بوتين تفيد بإصرار أميركا على عدم الرضوخ. وبالنظر إلى النقاش المحتدم في الإعلام الأميركي، يمكن أيضاً القول بأن الرسالة غير المقصودة التي تصل روسيا هي عودة الأيديولوجية وطغيان حالة من الإرباك على الغرب. وفي هذا السياق لجأت وسائل الإعلام إلى أصوات الحكمة الدبلوماسية والوجوه البارزة في السياسة الخارجية، مثل هنري كيسنجر وزبجنبو بريجنسكي اللذين وجها معاً دعوة إلى الهدوء وضبط النفس، مشيرين إلى نموذج فنلندا التي ظلت على الحياد طيلة مرحلة الحرب الباردة، رافضة الانحياز لأي طرف على حساب الآخر. لكن، وعند الحديث عن فنلندا، غالباً ما يتم تجاهل التاريخ. فقد تعرضت هذه البلاد قبل الحرب العالمية الثانية إلى غزو ستالين الذي أراد ضمها إلى روسيا لضمان نوع من العمق الاستراتيجي في حرب كان يتوقع قدومها، غير أن الفنلنديين رفضوا ذلك وقاوموا الاحتلال، وهم إذ نجحوا في طرد الروس، إلا أنهم فقدوا جزءاً من أراضيهم لروسيا، وعندما اندلعت الحرب العالمية الثانية حاربت فنلندا الاتحاد السوفييتي إلى جانب النازيين لاستعادة أرضهم الضائعة، لكنهم خسروا مرة أخرى بسبب تراجع القوات الألمانية وبدء انهيارها، فاضطربت فلندا لتوقع اتفاقية سلام مرة مع موسكو.

أما أوكرانيا التي كانت دائماً علاقتها صعبة مع روسيا، فقد حاربت إلى جانب الاتحاد السوفييتي ضد ألمانيا، وإن كان بعض الأوكرانيين اصطفوا مع النازية لهزيمة روسيا والانتقام من معاناة بلادهم تحت حكم البلاشفة، وبعد انتهاء الحرب ظل الشعور بالمرارة قائماً في نفوس الأوكرانيين ليلتحق بعضهم بالغابات ويشنوا مقاومة ضد الاتحاد السوفييتي، إلا أنهم خسروا مرة أخرى مطلب الاستقلال الذي لم يحصلوا عليه إلا بعد سقوط الاتحاد السوفييتي في 1991، وحتى بعد هذا التاريخ ظلت مشاعر التوتر قائمة بين البلدين، يضاف إلى ذلك انقسام المجتمع الأوكراني نفسه، الانقسام الذي ينعكس بدوره على العلاقة مع روسيا، ما يعني أن أي محاولة لتجاوز ضغائن الماضي وأحقاده تقتضي أولا فتح صفحة التاريخ لإعادة قراءتها قبل طيها في أفق التوصل إلى سلام دائم بين روسيا وأوكرانيا يجنب المنطقة الاضطرابات التي تشهدها حالياً.

الإتحاد

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.