صحيفة الكترونية اردنية شاملة

اتهامات غير منصفة للجيوش العربية مرة أخرى..!

0

ظاهرة غريبة بدأنا نلاحظها هذه الأيام تتمثل بالتهجم على الجيوش العربية ، واعتبارها مادة للاستهزاء والسخرية ، يشنها بعض الكتاب الأردنيين الذين يجهلون أو يتجاهلون الحقائق الساطعة ، فيحمّلون تلك الجيوش مسؤولية الهزائم التي تجرعتها الأمة العربية في العقود الماضية . وبفعلهم هذا إنما يقترفون ظلما كبيرا لتلك الجيوش ، ويزوّرون حقائق التاريخ أمام الأجيال القادمة . وعليه فإنني سأدلي بشهادتي للمرة الثانية فيما أعرفه عن تلك الجيوش ، خلال خدمتي الفعلية في الجيش الأردني في النصف الثاني من القرن الماضي ـ وليس لما بعد ـ إبراء للذمّة وإجلاء للحقيقة .

فالدكتور عبد اللطيف الرعود المحترم كتب مقالة بتاريخ 11 / 11 / 2013 على موقع كل الأردن الإخباري بعنوان ” الجيوش العربية ” ضمّنها اتهامات معيبة لها ، باعتبارها سببا في هزائم الأمة إضافة لانحرافها عن واجباتها الأساسية وطالب بتسريحها . وقد رددت عليه بعد يومين من نشر مقالته على نفس الموقع الإخباري ، بمقالة أوضحت بها أسباب تلك الهزائم وأكدت بأن من يتحمل وزرها ، هم السياسيون وليس العسكريون وجيوشهم العربية .

وبتاريخ 4 / 12 / 2013 أتحفنا السيد احمد خليل القرعان المحترم ، بمقالة على موقع جراسا الإخباري ، تتساوق مع ما ورد في مقالة الدكتور الرعود وفي نفس التوجه ، ولكن تحت عنوان ( جميل ) هو : ” الجيوش العربية بين مهزلة الانتصار وحقيقة الذل والعار ” .

وهذه المقالة الأخيرة أوحت لي بالتساؤلات التالية : ما هو العامل المشترك الذي جعل رجلان مثقفان يتناولان نفس الموضوع وباتهامات متشابهة للجيوش العربية في فترة تقل عن الشهر ؟ ما هي المناسبة التي دفعتهما لإثارة هذا الموضوع في هذا الوقت بالذات ؟ فهل وقعت حرب جديدة وهزمت بها تلك الجيوش ؟ أم انتهى الحديث حول قضايا الفساد والفقر والبطالة ، وتحول الكتاب لاجترار أداء الجيوش العربية في العهود الماضية ؟ هل عاش كتاب اليوم ظروف الشقاء والمخاطر التي عاصرتها الجيوش العربية سابقا بإمكانياتها المحدودة ؟ وهل سيخرج علينا كتاب آخرون خلال الأيام القادمة ليعزفوا من جديد هذا اللحن النشاز ؟ أتمنى على الكتّاب الكرام أن يسألوا نفسهم ماذا قدموا للأمة والوطن ، قبل أن يوجهوا الاتهام للآخرين .

يقول الكاتب في مطلع مقالته مايلي : ” معذرة يا عرب ، فقد أصبحت جيوشكم مهزلة ومسخرة للأمم المتقدمة والمتخلفة على حد سواء ، فكلما خافت إسرائيل وانزعجت من أمر ما ، خلقت أمريكا مشكلة في الوطن العربي لإخضاع جيوشها للتجربة ، تتحول بعدها تلك الجيوش بهمة قادتها إلى ملهاة تتسلى بها الأمم ، فأمريكا التي تتلاعب بالجيوش العربية لحماية بني صهيون ، لم تستطع أن تهزم دولا بلا جيوش ولا عتاد ولا تسليح ، فقد رأينا كيف انهزمت أمام كبرياء جزيرة كوبا وفحلها كاسترو ، وأمام مشرّدي الصومال . . . وأمام عنفوان فنزويلا وصمود افغانستان وعظمة فيتنام وتحدي سيرلانكا ” .

ويواصل عطوفته الحديث قائلا : ” نعم إنها الحقيقة التي يجب أن يدركها كل عربي لكي نمسح من ذاكرتنا ما يسمى بجيوش الانتصار بعد أن أصبحنا مضحكة الأمم في هذا العالم ، فلا تكاد ترى جيشا عربيا متماسكا في العدد وفي العتاد ، فقد تم تفكيك جيوشنا العربية واختراقها بصورة جعلتها تنهزم وتنكسر أمام أي عدوان ، لنرى بعد كل هزيمة كيف يتباهى قادة الجيوش العربية بالنياشين وتتزين صدورهم بالأوسمة . فتعالوا أيها العرب نتصور معكم حجم الإهانة التي لحقت بالأمة العربية شعوبا وجيوشا على مر التاريخ . . . ” .

وللرد على هذه العبارات الاتهامية ، أرجو أن يسمح لي القراء الكرام بإعطاء فكرة بسيطة عن عمل الجيوش بشكل عام ، وعن التخطيط العسكري للحرب ، لكي نشكل مفهوما ثقافيا مشتركا نحتكم إليه في هذا الموضوع . فالمنظّر العسكري البروسي كلاوزفتز قال قبل أكثر من مائتي عام : ” الحرب هي استمرار للسياسة بوسائل أخرى ” . وهذا يعني بأن الحرب هي أيضا سياسة ولكن باستخدام وسائل عنيفة بعد فشل الوسائل الدبلوماسية الناعمة في تحقيق أهداف الأمة . فصناع السياسة سواء كانت ناعمة أو عنيفة هم ” السياسيون ” الذين يعلنون الحرب التي وقودها الجيوش بقادتها وعساكرها ومعداتها . وهم الذين يقررون السلام سواء كان مشروطا أو غير مشروط ، الأمر الذي يوضح بأن الجيوش ما هي إلاّ أدوات يلعب بها السياسيون في كلا الحالتين و في زمان ومكان يختارونهما بأنفسهم .

والحرب بطبيعة الحال لا يمكن خوضها بالصدفة ، وبمجرد جمع أعداد غفيرة من الناس بين عشية وضحاها ، ووضع الأسلحة بأيديهم ثم زجهم في ميدان القتال لكي يصنعوا النصر . بل ان الحرب تتطلب الإعداد والتدريب وتوحيد المفاهيم والعقائد القتالية ، بين وحدات الجيش نفسه وبين الجيوش الشقيقة أو الحليفة التي ستخوض معركة مشتركة . والأهم من ذلك أن الحرب تتطلب إرادة سياسية مصممة على خوضها ، بعد وضع استراتيجيات سياسية واقتصادية وعسكرية وتهيئة الأمة بمجموعها للحرب . ففي هذه الأيام لم تعد الحرب مقصورة على الجيوش في ميدان القتال فحسب ، بل أنها تمتد إلى المناطق الخلفية لتشمل في أتونها السكان المدنيين والمصانع والبنى التحتية أيضا .

في هذه الحالة . . على السياسيين أن يضعوا الإستراتيجية السياسية التي تحدد المصلحة العليا للدولة ، ومن ثم إصدار التوجيه الاستراتيجي للهدف العسكري الذي يجب أن تحققه القوات المسلحة . وعلى الأخيرة أن تنفذ مهمتها الرئيسية من خلال استراتيجية عسكرية ترتكز على عناصر ثلاثة هي : الأهداف الرئيسية التي يجب أن تحققها القوات المسلحة ، الأساليب التي يجب اتباعها ، وتوفر الوسائل اللازمة لتحقيق المهمة . وهذا ما تلخصه المصطلحات العسكرية في الجيوش المتقدمة بالكلمات التالية : ( Ends , Ways , and Means ) .

هنالك مبدأ هام من مبادئ الحرب الأساسية وهو ” وحدة القيادة ” . وهذا المبدأ هو ما افتقرت إليه الجيوش العربية في حروب الماضي ، حيث أن كل جيش قاتل بقيادة منفصلة وبخطة منعزلة عن خطط الجيوش الأخرى المشترِكة بالحرب دون تنسيق مسبق . أما في الجبهة المقابلة فهناك ما يعاكس هذا المفهوم تماما ، إذ أن الجيش الإسرائيلي ينضوي تحت قيادة واحدة ، تضع استراتيجيات لعملياتها القتالية حسب أولويات محددة ، تأخذ باعتبارها أين ستوجه جهدها الرئيسي ؟ : هل توجهه نحو العدو الأخطر ؟ أو العدو الأقرب ؟ أو العدو الأقوى ؟ أو العدو الأضعف ؟

لقد جرت محاولات سابقة من قبل الجامعة العربية لتوحيد قيادة الجيوش العربية في منتصف الستينات من القرن الماضي ، إلا أنها فشلت في هذا التوجه لأن السياسات العربية لم تعطها الوقت الكافي لإجراء الاستعدادات اللازمة للحرب المقبلة . فزجّتها في حرب حزيران عام 1967 دون تحضير وتخطيط مسبقين ، إضافة لعدم صدق النوايا السياسية من قبل الدول المشارِكة ، الأمر الذي انعكس سلبا على أداء الجيوش العربية وخاصة على الجبهة الشرقية .

ولكن حينما أعطت القيادتان السياسيتان في مصر وسوريا الحرية للقادة العسكريين ، لإجراء التخطيط المشترك للحرب القادمة بعد حرب حزيران ، تمكن الجيش المصري في عام 1973 بمساعدة الجيش السوري في الشمال ، من صنع معجزة عسكرية عظيمة تخطيطا وتنفيذا ، مكنته من تحطيم أعظم خط دفاعي في التاريخ العسكري ، يرتكز على مانع مائي مدعوم بحصون منيعة على ضفته البعيدة . وأصبح ذلك العمل البطولي نموذجا للأداء العسكري المتقن ، يُدرّس في أرقى المعاهد العسكرية العالمية.

ولكن بعد تأسيس رأس الجسر بعمق 12 كيلو مترا على الشاطئ الشرقي لقناة السويس ، حدث الاختراق الإسرائيلي من خلال ثغرة الدفرسوار . وعندما حاول القادة العسكريون المصريون التصدي لقوات الاختراق وتدميرها غربي القناة ، تدخّل السياسيون في مجرى العمليات ومنعوهم من ذلك ، مما أدى إلى اختلال ميزان القوى بين الطرفين ، فأفسدوا نتائج النصر الأولي ، وحولوا الحرب من حرب تحرير إلى حرب تحريك ، قادت في النهاية إلى اتفاقية سلام منفرد بين حكومتي مصر وإسرائيل .

عندما يقول الكاتب أن أمريكا لم تستطع أن تهزم دولا بلا جيوش ولا عتاد ولا تسليح ، وانهزمت أمام كبرياء وصمود بعض الدول الصغيرة ، فأنا أوافقه على أن الشعوب الحية والمصممة على التضحية فداء لأوطانها تستطيع أن تفعل المعجزات . وما صمود أهل ليننغراد أمام الحصار الألماني لما يزيد على 900 يوم خلال الحرب العالمية الثانية دون استسلام ، إلا نموذجا لصمود اسطوري صنعه شعب عظيم صمّم على الانتصار .

وتأسيسا على ما تقدم أطرح الأسئلة التالية : هل الشعوب العربية هذه الأيام قادرة على الصمود والمقاومة الفعلية وتحقيق النصر على العدو ؟ هل هذه الشعوب مدربة على المقاومة الشعبية وأعمال الدفاع المحلي عن مدنها وقراها في حالات الطوارئ ؟ هل أعدت الحكومات شعوبها تنظيما وتدريبا وتسليحا وتعبئة نفسية لحماية مناطقها إذا دعت الحاجة ؟ أعتقد أن الإجابة على جميع هذه الأسئلة تنطق بالنفي .

يطالب السيد القرعان بأن يدرك كل عربي الحقيقة لكي يمسح من ذاكرته ما يسمى بجيوش الانتصار . ولا أعرف من الذي ادّعى بهذه التسمية الغريبة التي لم أسمع بها من قبل . ومع هذا فسأسمح لنفسي بمسايرة الكاتب ، بافتراض تسمية أكثر قسوة وأثقل وقعا على تلك الجيوش ألا وهي : ” جيوش الانكسار “. وسؤالي الآن من هم المسببون الحقيقيون لذلك ؟ أليسوا هم السياسيون الذين زجوا بتلك الجيوش في أتون الحروب دون تهيئة واستعداد ؟ أليس هذا مخالفا لما جاء بقوله تعالى : ” وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم ” ؟

وعندما يدّعي الكاتب بتفكيك الجيوش العربية واختراقها ، ويتم تزيين صدور قادة الجيوش بالنياشين والأوسمة بعد الهزائم ، أسأله من الذي سمح بتفكيك واختراق تلك الجيوش ؟ ومن الذي منح النياشين والأوسمة بدلا من محاكمة العسكريين إذا كانوا هم السبب في تلك الهزائم ؟ اليسوا هم السياسيون الذين أقدموا على فعل ذلك .

وقبل أن تنادي أيها الكاتب العزيز على العرب ، ليتصوروا حجم الإهانة التي لحقت بالأمة العربية شعوبا وجيوشا من خلال استشهادك بمثال بائس ، عليك أن تبحث عن المسببين الحقيقيين لكل ما تدّعيه من إهانات ، وأن لا تنظر إلى النتائج فقط لأنها محصلة لفعل رديء سابق ، فمن يزرع الشوك لا يحصد الورد.

السبب الحقيقي لكل هذه الانكسارات والهزائم يا عزيزي الكاتب هم ” السياسيون ” بكل تأكيد . لأن الحرب عمل سياسي يمهّد له السياسيون ، ويدير جهده السياسيون ، ويوجه نتائجه أيضا السياسيون . وما الجيوش العربية وقادتها إلا أحجار على رقعة الوطن العربي ، يتلاعب بهم السياسيون حسب أهوائهم ومصالحهم ، دون اعتبار لمصالح الشعوب والأوطان . إنهم بالتأكيد سبب البلاء ، ويتحملون وزر تلك النتائج وانعكاساتها السلبية ، التي غمرت وجه الأمة العربية بالذل والعار .

ختاما أقول لمن يُفتي بما لا يعلم : كفى تشويها لصفحات التاريخ . . كفى تضليلا للأجيال الناشئة . . وكفى اتهامات ظالمة لرجال شرفاء وجيوش وطنية ، كانت في واقع الحال وقودا لحروب السياسيين . ومع ذلك فإنها قدمت تضحيات جسيمة ، وجادت بقوافل الشهداء الأبرار قرابين على ساحة الوطن العربي ، بفعل سياسات خرقاء فشلت في إعداد جيوشها ليوم التحرير .

التاريخ : 8 / 12 / 2013

[email protected]

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.