صحيفة الكترونية اردنية شاملة

النقد والعلوم المجرَّدة

0

التغيرات العاصفة التي تحدث في التاريخ، المسؤول عنها ليس الأحداث الكبرى حسْب، بل أيضاً المكتشفات العلمية، والنظريات والمقولات الفلسفية، والأفكار الاجتماعية، والحركات الإصلاحية والتنويرية، وحركات الضد والممانعة والفوضى.
من الشواهد على ذلك ما تركته ثورة الاتصالات والطباعة والإنترنت وقانونا الجاذبية لإسحاق نيوتن، والنسبية لأبرت آينشتين، واكتشاف النار، وتدجين الزراعة والحيوان، وآراء غاليلو غاليلي، ونظريات سيجموند فرويد وتلميذه كارل يونغ كمنعطفات في التاريخ الإنساني.
هذه النظريات تركت أثرها في تطور المعرفة المجردة، مثلما ألقت بظلالها على المعارف الإنسانية باقتراحات من شأنها أن تعزز معقوليتها وعقلانيتها واقترابها من الحقيقة.
وباتت العلوم التطبيقية أو الطبيعية أو البحتة من أبرز المصادر التي تُعَقْلِن أدوات النقد الأدبي والثقافي ومناهجه ومقولاته، بإفادته من نظريات الفيزياء والكيمياء والتشريح، والدراسات التجريبية على العقل والدماغ والمجسّات الحسية، وقراءة المشاعر والعواطف التي تتصل بسيكولوجية الكتابة ومناخات التلقي.
الكثير من النقاد ودارسي اللسانيات وأصحاب التيار البنيوي والمدرسة النفسية، أفادوا من معطيات العلم لاختبار آرائهم النقدية، ومنها ما يتعلق بدراسته تشريح العقل واللغة، وتحوّلَ المفهوم البنيوي المؤسس على قاعدة اللسانيات إلى مفهوم بنيوي خطاطي بتأثير الإعلاميات بحسب الناقد المغربي حميد لحمداني، كما تحوّلَ التحليل النفسي اللساني عند جاك لاكان في إطار علم النفس التجريبي إلى دراسة الخطاطات الذهنية للمبدع، واستفادت الدراسات السوسيولوجية من الخلفية الإعلامية للبحث في تفاعل القراء بخطاطاتهم الخاصة مع خطاطات النصوص، في نطاق جمالية التلقي.
وقد هيأ العصر الراهن مناخاً مناسباً للتراسل بين العلوم البحتة والعلوم الإنسانية، كما وفّرت العولمة الشروط التقنية التي ساهمت في تقصير المسافة الزمانية والمكانية، وفتح النوافذ بين المعارف.
وظلت الخطابات تتعامل مع النقد الأدبي وفق حدّية الحقول وانتساباتها التي تتصل بنقاء النص ومكوناته وتشابكاته مع العلوم الإنسانية، من دون النظر إلى العلوم البحتة.
وهو ما دعا إليه لحمداني بـ «اقتراح وسائل جديدة لإعادة النظر في منهج تاريخ الأدب في ضوء تطور المناهج المعاصرة وما يسندها من علوم إنسانية».
غير أن الدراسات النقدية الغربية التي استعيرت من بيئتها، ظلت تنطوي على غموض يتصل بجهل مرجعياتها «العلمية»، وهو ما يدعو إليه لحمداني بالقول: إن تجاوز الواقع الحالي للدراسة التاريخية للأدب قديمه وحديثه، يتطلب أولاً فهم حدود هذا النقد وإمكانياته.
هذا ما يفسر أن العالم العربي كما يرى لحمداني «عاجز عن تطوير النقد تلقائياً من الإمكانيات الذاتية الثقافية، بسبب تخلُّف البحث في العلوم الإنسانية والعلوم البحتة»، لذلك نجد جميع المحاولات السائرة في سبيل هذا التطوير، لا تستغني أبداً عما هو موجود خارج العالم العربي من نظريات وأبحاث متقدمة.
يتطلب هذا من المشتغلين في الحقول العلمية البحتة، المساهمةَ بإثراء الدراسات النقدية الأدبية والثقافية، والأدب بعامة، من خلال تغذيتها بعدد من المصادر ومقاربتها مع درس الفيزياء والكيمياء والتشريح والجغرافيا وعلم النفس التجريبي.
وكما يقول لحمداني: ينبغي النظر إلى الأدب بوصفه مجموعة من كل المؤثرات الصادرة عن الأنساق المختلفة، حيث يجد كل نسق الفرصة لأن يُسقط نفسه خارج ذاته، لأن الوسيلة الوحيدة الممكنة لتحقيق ذاته هي هذا الدخول في علاقةٍ مع الخارج.

الرأي

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.