صحيفة الكترونية اردنية شاملة

الحوكمة التشاركية كخيار لتحييد “أثر الفراشة”

بعد الكساد العالمي العظيم عام 1929، بدء الاقتصاديون الغربيون بالتنازل عن غرورهم وغطرستهم في مجال الاحاطة بقوانين المجتمع والاقتصاد وسنن العالَم الاجتماعي، لصالح مختصي العلوم الاجتماعية الأخرى . 

ومن مؤشرات هذا التنازل عن “عرش” العلوم الاجتماعية، الدعوة المتكررة الى تأسيس علم اجتماعي موحد ومتكامل ومتداخل التخصصات، يشمل الى جانب علم الاقتصاد، علوم الاجتماع والسياسة والنفس، والتخطيط والسياسة العامة وحقل بناء الدول، وعلوم النظم وعلم التعقيد وعلم التوجيه، وأخيراً نظرية المعرفة وفلسفة الأخلاق. 

ومن المحاولات الجادة لتأسيس علم شمولي ومتداخل التخصصات: حقل علمي يسمى “النظرية العامة للنظم” (مثال: كينيث بولدنج) وأيضاً ما يُعرف ب”علوم السياسة العامة Policy Sciences” (هارولد لاسويل)، وكلاهما لا يُدرّس بأي درجة من العمق في جامعاتنا. ويفترض في هذا العلم المتكامل ان يدمج قضايا أساسية مثل الموارد والقيم والقوة والمؤسسات والحوكمة والرفاهية، وأن يوازن بين “النظام” و “التغيير”، دون ان يهيمن أي منهما على الآخر، مع التركيز على مصالح الأضعف والأقل موارداً في المجتمع (انظر مقال سابق للكاتب: تقييم البرامج التنموية في ظل الوصفات والموارد الدولية).

علم الاجتماع، على سبيل المثال، له تراث ممتد من المعرفة في مجال دراسة المجتمعات كوحدة أساسية للبحث، بما فيه النظم الفرعية ضمن المجتمع، كالاسرة والدين والثقافة وحتى مشاريع الاعمال. فكل علم اجتماعي هو في نهاية المطاف “نموذج معرفي ارشاديParadigm ” ينظر الى الواقع الانساني المعقد والمتنوع (هذا الفيل الضخم) من زاوية معينة، أي من منظور محدد وبمنهجية خاصة ومُسلّمات متباينة، والاتجاه السائد في العلوم الاجتماعية المعاصرة وفلسفتها هو اتجاه تعددي لا عرش فيه ولا اقصاء.

لكن هنالك صعوبات منهجية في ادماج علوم اجتماعية متباينة في رؤيتها للعالم وخصوصياتها، ولا زال هنالك حاجة ماسة الى مناهج فعالة للدمج بين نماذج مختلفة للعلوم الاجتماعية ضمن علم موحد للانسان وللسيطرة الاجتماعية في مجتمع مفتوح، وبما يخدم الحوكمة العليا للمجتمعات وانقاذها من التفكك والانحراف والمشكلات والأمراض والفوضى والاغتراب، أو ما يمكن تسميته ب”حوكمة الحوكمة Meta-Governance” . 

علماء الاقتصاد (عدا خبراء صندوق النقد والبنك الدوليين!) تعلموا الدرس القاسي الثاني بعد الازمة المالية والاقتصادية العالمية 2008، ورافق ذلك استجابة مرنة بتأسيس تخصصات فرعية غير تقليدية في علم الاقتصاد تبتعد عن النموذج المعرفي الكلاسيكي وتستقي من العلوم الأخرى، ومثال ذلك: علم الاقتصاد السلوكي وعلم حديث آخر يسمى علم اقتصاد التعقيد Complexity Economics. 

علم اقتصاد التعقيد يطبق معطيات “علم التعقيد” على المشكلات الاقتصادية ضمن المسلّمة القائلة بأن اقتصاد السوق الحر، المعاصر ومتزايد التعقيد في مجال الممارسات والمنتجات والمؤسسات والتشابكات، هو ليس في حالة التوازن و”العمالة الكاملة” كما يفترض الاقتصاديون الكلاسيكيون. ولست أعلم بالضبط مدى احاطة هذا التخصص الجديد بالحقيقة القائلة بأن هنالك جوانب فشل مزمنة في كل من الأسواق الحرة والتدخل الحكومي كآليات بديلة لتخصيص الموارد وتوفير السلع العامة، كما يؤكد ذلك تخصصات اقتصادية راسخة هي اقتصاديات الرفاه واقتصاديات الاختيار الحكومي. 

ومع ذلك، وبعد مئة عام على الأقل من تأسيس العلوم الاجتماعية، أصبح علماؤها وفلاسفتها يميلون الى الاجماع على خلاصة جوهرية في مجال الحوكمة العامة و”الهندسة الاجتماعية” في المجتمعات الرقمية المعاصرة، يشاركهم بها “علم اقتصاد التعقيد”: ان التفسير العلمي الدقيق والتنبؤ الحتمي أمر غير متاح عملياً في العالم الاقتصادي والاجتماعي، وان تحققا في المستقبل في بعض المجالات فهما لا يعني السيطرة الفعالة بالضرورة، خصوصاً في ضوء تباين الظروف الاولية لكل بلد. 

فهنالك مع -محاولات- السيطرة النخبوية تداعيات سلبية غير متوقعة وأحياناً كارثية في الأجل الطويل. نظرية الفوضى والتعقيد الحديثة تكشف أسرار ضعف الانسان في التحكم ببيئته الطبيعية، وهشاشة بل ربما سُخف فكرة سيطرته المستدامة على بيئته الاجتماعية. فمثلاً ما يُعرف ب”أثر الفراشة Butterfly Effect” ينص على ان تغييراً متعمداً بسيطاً في بيئة التحكم قد يولد تداعيات كبيرة غير متوخاة وفوضى في النظم. 

يتبين مما سبق ان الهندسة الاجتماعية غير التشاركية والمعتمدة على الوصفات و”التوصيات” الدولية في اطار الليبرالية الجديدة وغيرها، سواء في مجال الاقتصاد أو الاجتماع أو الاسرة، لا تتمتع -في الحقيقة وليس في التخيل- بأساس عقلاني متين، سواء من حيث “النتائج” أو الاستدامة أو الكلفة المتزايدة على الموازنة العامة، مما يفسح المجال لتبني الحوكمة التشاركية عوضاً عن الحوكمة التكنوقراطية والنخبوية .

التعليقات مغلقة.