صحيفة الكترونية اردنية شاملة

رمضان ونحن والآخر

يعتبرُّ حلولُ شهر رمضان المبارك من كلِّ عام؛ فرصة مواتية يُمكن للمرءِ انتهازها لمراجعةِ سلوكياتهِ وقناعاته، ناهيكَ عن مضاعفةِ الأعمالِّ التي من شأنها تقريبهِ إلى خالقه.

وفي مناحي الحياةِ الدنيا المختلفة؛ عادةً ما يقوم الأفرادُّ وتواظبُّ المؤسّساتُ على بناءِ موازناتٍ ومراجعةِ ميزانياتٍ سنويةٍ من شأنها إعانتها على تقويمِ الأخطاءِ ووضّع تصوّرٍ ورؤية كفيليّن بتحسين أدائها خلالِّ العامِّ الجديد، وهو أمرُّ يبدو غير مُستحدثٍ أو مبتدع، نظراً لكونهِ ذاتَ السلوك الذي انتهجهُ المصريونَ القدماء في الألفِّ الرابع قبلَّ الميلادِّ عبرَّ تقويمهم الشمسيّ، الأمرُّ الذي مكنّهم آنذاك من تنظيمِّ شؤونِ الزراعةِ وخلافها.

وفي الشأنيّنِ الاقتصاديِّ والسياسيِّ المُعاصريّن؛ يتحكمُّ الزمنُ أيضاً ببناءِ وتبدّلِّ القناعاتِ لدى المجتمعات، فقد وجدَّ الأميركيون إن التوقيتَ مواتٍ لاختيارِّ دونالد ترامب رئيساً لهم، إذ أنهم يروّن بأنَّ سنواتهِ الأربعِ المرشّحةِ للتضاعفِّ قدّ تكونُ بمثابةِ طوّق نجاتهم من براثنِ البطالةِ والركودِّ الاقتصادي، حتى لو كانَ ذلكَ على حسابِّ علاقاتِ الولايات المتحدة التجاريةِ مع كلٍّ من الصين والمكسيك، وحتى لو كانَ الأمرُّ يقتضي استدعاءهُ للأموال من جيوبِّ بلادِّ العُرب وذلكَ مِن خلالِّ إجبارهم على شراءِ أسلحةٍ لا يحُسنون استعمالها سوى في مواجهةِ بعضهم البعض أو لوأدِّ حُرّيةِ شعوبهم كما جرت العادة.

وحتّى في عالمِّ كرة القدم؛ فإن التكتيكَ المُتبع من قِبلِّ الإسبانيِّ بيب جوارديولا، المديرُّ الفنيُّ لفريق مانشستر سيتي الإنجليزي لكرةِ القدم، يختلفُّ عادةً في الشوطِّ الثاني من اللقاءِ عنهُ بأوله، وهو ما ينسحبُّ على رياضةِ كُرةِ السلة، وذلك حينما يطلبُّ المدربُّ وقتاً مُستقّطعاً لضمانِ إعادةِ تصويبِ مسيرة فريقهِ خلالَّ هذهِ المواجهةِ أو تلك.

ومن هنا؛ يمثلُّ شهرُّ رمضان المبارك بقدسيتهِ ومكانتهِ العظيمتيّن تلكَ الفُرّصة التي ينبغي اغتنامها وذلك لإعادةِ تصويبِّ مسارِ الأمّة العربيّةِ الإسلامية.. وهذا الأمرُّ ينبغي أن يسبقهُ تصحيحٌ شاملٌ للمفاهيم والقناعاتِ التي تنطلقُ من القاعدةِ وصولاً إلى أعلى هرمِ المؤسّسات الحاكمة، والتي يبدو أنها ليست الوحيدة التي يعتريها مرضُّ الجمودِّ وانتفاءِ القدرةِ على المراجعةِ والتقويم والنظرِّ بعيّن بصيرةٍ إلى المستقبل.

وبعيداً عن الملاحظاتِ غيّر المُنتهية ذات الصلةِ بالنخبِّ السياسيّةِ التي تحكمُّ العالمَ العربي وتقودهُ إلى مورِد الهلاكِ والانحطاط؛ فقد باتَ ضروريا مراجعةُ بعضِّ القناعاتِ السائدةِ والمترسّخة في أوساطِنا باعتبارها مسلّمات، والتي تسببت بالقضاءِ على أيِّ فرصة للتطوّرِ في هذهِ المجتمعات التي تفضّل القولَّ الجاهز أو المأثور على المُستجدِّ فيما يبدو الأخيرُّ أكثر تماهٍ مع الحقائقّ العلميّةِ والمعرفيةِ فضّلاً عن المنطقيّة.

لقد حضَّ القرآن الكريم، منذ أن تنزّلت أولى آياته على النبيِّ الكريم محُمد عليهِ الصلاةُ والسلام في غارِّ حراء، على العلّم والقراءة، لننتقلَّ بفضّلها من مجموعاتٍ هامشيةٍ متناثرة، إلى تلكَ الأمّة التي نشرت الدينَ والعلوم والمعارفِّ والآدابِّ في المعمورةِ عموما، وأوروبا خصوصاً، الأمرُّ الذي أدى إلى أيقاظ الأخيرةِ في وقتٍ لاحق من ذلكَ النوم العميق الذي ظلّت تغطُّ فيه من جرّاء تفشّي مظاهر الجهلِّ والأوبئة والتي أستوطنت لندن وباريس وسواهما لقرون طويلة.

وفي الوقتِ الذي كان فيه الظاهرةُ المعرفيةُ أبو الريحان البيروني يُعلنُ للمرّةِ الأولى بأنَّ الأرضَّ تدورُّ حول محورها وذلك بعدما جهِدَّ في تصنيفِ أكثرِّ من 120 كتاباً في شتّى ألوانِ العلوم والفلسفة والفلك، فقد كانَ الأوروبيونُ ينظرون إلى أمثالهِ باعتبارهم مهرطقون، إذ لم تقِم القارةُ العجوز للعلمِّ مكانةً أو وزّناً خلال عصورِها المُظلمة التي كانَ حالها شبيها بذلك الذي اتّسم به العربُّ في جاهليتهم، غزوٌ ونهبٌّ ووأد، يكسوهُ غطاءٌ من الكلماتِ المُنتقاة التي خلّفت شعراً عظيمةٌ بلاغته، سخيفةٌ دلالاته التي تُحمّسُّ على النيلِّ من الآخرين لمبرّراتٍ قدّ لا ترقى لأكثرِّ من خلافٍ على موضعِ رعيِّ الإبل.

وبعدما انهارت المنظومةُ المعرفية في بلادنا مع إلقاء آخرِّ صحيفةٍ من مكتبةِ بيتِ الحكمة في مياهِ دجّلة في العام 1258 ميلادية، حينما فتكَ المغول بالمشرقِّ العربيِّ ودُرّته بغداد، كانت الأمّةُ المشتتّة تلجُ في مسارِّ نفقٍّ مظلم مجهولةٌ نهاياتهُ، خصوصاً بعدما رسّخت الدويلات المُنتشرة في العالمِّ الإسلاميِّ المهيمن عليها من قِبلِّ غيّر العربِّ أو الفُرس، من حالةِ التجهيلِّ التي اُتخذت وسيلةٍ من قِبلها كسبيلٍ لفرضِّ سيطرتها على المناطقِّ الجغرافية التي تقوم عليها، لتؤسّس بعدَ ذلك لمرحلةٍ يسيطرُّ عليها القناعاتِ المغلوطةُ المبنيّةُ على السماع الشفهيِّ غيرِّ المستندِّ للدلائل، الأمرُّ الذي أفضى إلى ولادةِ نهج يقومُّ على التكرارَّ غيّرِ الصحيح ولا النافع لمقولاتٍ ظلّت إلى اليوم تصوغُ منطقنا وتصرّفنا اليوميّ.

لكنَ السؤالَّ الأكثرَّ أهميةً بعدَّ هذه المقدمةِ المطولة؛ ما هوَ السبيلُّ الكفيلُّ بردّمِ الفجوةِ الأخِذةِ بالتنامي بيننا وبيّن الآخر، ذلك الأخرُ الذي يدخلُّ عصرَّ الثورةِ الصناعيّة الرابعة، ونحنُ لا زلّنا في حِقبةِ نجترُّ فيها مقولاتٍ تنتمي للعصورِّ الوسيطة وتعودِّ لأشخاصٍّ غيرَّ مُنزّهين عن الخطأ طرحوها لمواجهةِ مقتضياتِ وظروفِّ عصرهم؟، كما أنَّ هذهِ المعضلة ستكونُ أكثر تعقيداً لو علمّنا بأنَ كثيرا من تلكَ المقولات أوالفتاوى التي تحوّلت إلى قناعاتٍ راسخةٍ في وجداننا، لم تكُن صحيحةَ النسبِّ إلى قائليها، بل نحنُ من تولّى نقّلها بحُكّم ثقافتنا السماعيّة التي تفتقرُّ إلى أبجدياتِ التحقق، لنعودَّ بهذا السلوكِ إلى ما كُنا عليهِ في العهدِّ الجاهليّ، ترنّم باستماعِ الشعرِّ ونظمهِ وترديدهِ إعجابا بلحنهِ، مقابلَّ الحطُّ من مكانةِ العلّمِ والحِرَفِ والمهن التي تعتبرُّ وقودَّ تقدّمِ الأممِ كما وصفها العلامةُ عبدُ الرحمنِ ابن خلدون في مقدمتهِ الشهيرةِ التي أغفلنا إلى اليوم تلكَ الرسائلَّ المُهمةَ التي حملتها والتي كانت كفيلةً بتشخيصِّ حالتنا فضلاً عن رسمِ السبيلِّ إلى الخروجِ منها.

يأتي شهرُّ الصيامُ هذا العام، وقد أدلهمّت الخطوبُّ وتكالبت على هذه الأمّة.. مصائبٌ تترى لم تأتنا من الغربِّ والشرّقِ فحسب، بلّ أيضاً كانت ثمرةُ منهجنا القائمِّ على السطحيّةِ والابتذال في تناولّ الأمورِّ وبحثها ونقدها، الأمرُّ الذي جعلَّ بلداننا في أدنى درجاتِ المعرفةِ والعطاءِ والتنميّةِ، وبدلاً من أي يكونَ بييننا أكثر من بيرونيٍّ واحدِّ، أمسينا عبئاً على البشريّةِ التي ترانا منشغلين بحواراتٍ بينيةٍ هامشيةٍ غير مستوعبةٍ ما يجري حولنا من تقلّباتٍ وتبدّلاتٍ سياسيّةٍ واقتصاديةٍ وتقنيّة فائقةِ السرعة.

لا يمكنُ الخروجُ من براثنٍ هذه المعضلةٍ إن بقينا على ذاتِ منهجيةِ تفكيرنا، يُتحكم بقناعاتنا دعاةٌ خلطوا الدين بالسياسةِ بالمالِّ وبالتاريخ، ونظراءٌ لهم أوقدوا جذوةَ الفتنةِ الإقليميةِ والطائفيةِ وأوغلوها في صدورِّ كثيرٍّ منّا مستندين في ذلك إلى اجتهاداتٍ وأقيسةٍ نبذها الزمن ولفظها، لكنهم فضلوا التشبثَ بها لأنهم منخرطون بتمريرِّ مشروعِ سياسيّ مقابلَّ متاعٍ في الدُنيا قليل.

هؤلاء الدعاة؛ الذين سيتصدرونَ المشهدَّ الرمضانيَّ من جديد بعدَّ أيامٍ قليلة، هم الذين تسببوا بتشويهِ قناعاتِ وأفكارِّ شبابِّ الأمّةِ قبلَّ أن ينصرفوا إلى تقديمِّ إعلاناتٍ للبخور والعطور وأصنافِ الدجاج، مستفيدين من التعدادِّ الواسعِ لمتابعيهم على منصّاتِ التواصلِّ الاجتماعي.

لا يمكن تجاوزُّ هذهِ المرّحلةِ العصيبةِ من تاريخنا أيضاً إن بُنيت قناعاتنا على ما يبثهُ إعلاميٌّ أشهرتهُ قناتهُ المرئية ويبثُ رأيهُ الذي ينهلُّ من معين ميزانية تُخصّص له مِن قِبلِّ الدولةِ أو النظامّ السياسيِّ المتُحكم بالمنصةِ التي يأكل رزقهُ منها ويقدّم رؤيتها عبرها.. هذا الطرح القابلُّ للتغيرِّ تبعاً لتبدّلِ المصالحِ وتغيّر المخصّصاتِ الماليّة الممنوحةِ لهذهِ الشخصيّة المؤثرة أو تلك.

لا يمكن تعافي بلداننا ومجتمعاتنا دون أن تتسلحَ بعلم يقينيّ نكون قادرين من خلالهِ على فهم ومواجهة ما يحلّ ويحيطُّ بنا، فلا يفيدُّ استمرارُّ التغنّي والبكاءِ على إطلالِّ أمجادنا، ولا حتى التعلقِّ بأوهام الأملِّ لصناعةِ مستقبلنا.

يحلُّ علينا رمضانَ مِن جديدٍ، وهو يشهدُّ مرّة أخرى على فعلناه بأنفسنا، فهو ليسَ شهرٌ نكتفي فيه بالامتناعِ عن المُفطرات فحسب، بل إنه أيضا يمثّلُ فرصة للكفِّ عن نمطِّ تفكيرنا، قبلَّ أن نفقدَّ ذاتنا وهويتنا وأوطاننا.

التعليقات مغلقة.