صحيفة الكترونية اردنية شاملة

مكانة الأردن وهيكلة قطاع الاستثمار

تراجعت مكانة الأردن التنافسية بعد الهيكلة الأخيرة، ويُغشى ان يستمر بالتراجع بعد هيكلية جديدة أخرى في ظل غياب القيادة والخبرة والحاكمية المطلوبة لإدارة التغيير.

انشغل الرأي العام الأردني خلال الأسابيع الماضية بتفاصيل التعديل الوزاري الذي اجراه الدكتور عمر الرزاز على حكومته. تناولت التعليقات تفاصيل كثيرة، الا ان قرار الغاء منصب وزير الاستثمار لم يستحوذ على الاهتمام الكافي نسبة الى أهمية القطاع.
سياسيا ومؤسسيا ومنطقيا، فان فرص منح مساحة واسعة للاستثمار في أي حكومة كثيرة. فبداية، لا يخلو خطاب ملكي او حكومي او حزبي او شعبي من الإشارة الى الاستثمار كالقطاع المُحدِث للنمو بهدف خلق فرص عمل للأردنيين الذين يعانون من نسبة بطالة تعدت 18،7%. فأهمية اي قطاع ومقدار الالتزام به على مستوى الدولة تجد لها مكانا عادة في المجلس، اسوة بالقطاعات الاخرى.
مؤسسيا، فإن احدى أبرز تصنيفات اقتصاديات دول العالم هو مقدار سهولة القيام بالأعمال التجارية، من 1 إلى 190. وإذا اخذنا الأردن كمثل، فانه يحتل المرتبة 104 على تصنيف البنك الدولي، أي في النصف الثاني من هذا السلم. يسبقنا في المؤشر، الى جانب الدول المتقدمة اقتصاديا، دول مثل جيبوتي وسيشيل وزامبيا والبانيا وعدد من الدول العربية. ويعتمد التصنيف على عدة مؤشرات قطاعية جميعهم ممثلين في مجلس الوزراء. وفي ظل غياب مؤسسية ناضجة تقدم حلول سريعة للمعيقات التي تواجه المستثمر، فالعمل عبر القطاعات في المجلس بهدف تقديم الحلول وتحسين مؤشرات الأردن يتطلبان قيادة للموقف عبر السلطتين التنفيذية والتشريعية.
الحديث عن هيكلة قطاع الاستثمار مطلوب ويجب اتمامه بدون تأخير، ولكن بهدوء شديد، تفاديا لاي اضطرابات قد تسئ أكثر الى مؤشرات الأردن وثقة المستثمر. ولذلك، ان احداث أي تغيير بوجود وزير ذو نظرة شمولية وخلاقة من شانه ان يثري هذه العملية بالقيادة المطلوبة للوصول الى النتائج المرجوة بفترة زمنية قصيرة. فهذه ليست اول مرة سيتم فيها هيكلة للقطاع، وفي كل مرة تنتهي بإحداث تغيير نتائجه لا تواكب العصر او الاحتياجات، الامر الذي أدى الى التراجع في المؤشرات. فقبل سنوات لم يسبق الأردن الا الامارات في المؤشر العالمي، وكانت تتنافس تونس معنا على نفس المرتبة (وهي اليوم في المرتبة 80 بالرغم من التحديات التي واجهتها في السنوات الأخيرة، كما تسبق قطر).
ان الحديث المتكرر الذي يقول بان بيئة الاستثمار في الأردن سيئة خال من المنطق ومرفوض بالرغم من المؤشر المزعج، ويجب اعتباره حجة للفشل الذريع في محاولات متكررة لترتيب البيت الداخلي المؤسسي، وللاختباء بسبب الفشل التسويقي. ففي مؤشر التنافسية العالمية الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي، يقع الأردن اليوم في المرتبة 73 من بين 130 دولة (كانت مرتبة الأردن 64 عام 2014 قبل الهيكلة)، ويعتمد هذا المؤشر على معايير تختلف عن المؤشر السابق الذكر. لا مجال هنا للتطرق لهذه المعايير، وسأكتفي بالقول بانه حتى لو كان هنالك ايحاء بسيط بوعد مستقبلي امريكي لبريطانيا بانها ستنظر باتفاقية تجارة حرة معها لحلت المعضلة التي واجهت تيريزا مي حول بركزت. وها نحن في الأردن، نتمتع بعدة اتفاقيات تجارة حرة تمكن المنتج الأردني الوصول الى اغنى مليار ونصف مستهلك في العالم، إضافة الى سمعة قيادتنا الهاشمية المشرقة، ناهيك عن البنية التحتية من مناطق حرة ومدن صناعية وأنظمة مالية وبنكية ولوجستية وصحية وتعليمية وحوافز اقتصادية في بلد سياحي عالمي يتمتع بالاستقرار والأمان، مما يدفع الشكوى من سوء البيئة الاستثمارية جانبا كسبب لعزوف المستثمر. فهنالك دول يسبقها الاردن بالمرتبة في المؤشرات المعتمدة عالميا ولكن تنجح باستقطاب الاستثمارات.
وبالرغم من التحسن في بعض المؤشرات الاقتصادية مثل الانخفاض في الميزان التجاري في الربع الأول من السنة الحالية، الا ان بيانات البنك المركزي كشفت ان صافي الاستثمار الأجنبي المباشر تراجع خلال عام 2018 بنسبة 53%، في حين سجلت آخر معدلات للنمو في بداية عام 2019 معدل 1.8% متراجعا عن الربع الاخير من العام 2018. لا شك ان الظروف الإقليمية لها تأثير كبير على هذه النسب، ولكن يجب التوقف عن إلقاء اللوم على الظروف الا بعد ترتيب البيت الداخلي الاقتصادي.
لقد شهدنا قبل أشهر قليلة ذاك التراشق الشرس عبر مواقع التواصل الاجتماعي بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والرئيس التنفيذي لمُصَنِع الدراجات النارية المعروف هارلي ديفيدسون، الذي أعلن في تغريدة له بان الشركة قررت نقل عمليات احدى مصانعها في أمريكا المصدرة لأوروبا الى الخارج بسبب فرض ترامب لضرائب جديدة على مدخلات الانتاج الاوروبية، وأنها تبحث عن موطن جديد. وقبل أيام قليلة من مؤتمر لندن الأخير لدعم الاقتصاد الأردني تحديدا، أعلنت شركة هوندا بانها ستغلق مصنعها في مدينة سويندون البريطانية التي تبعد 120 كيلومتر عن مقر انعقاد المؤتمر، وعن نيتها اغلاق مصنعها خارج إستانبول. السؤال هو، هل تواصل معهم أحد، علما بأن شركة هارلي ديفيدسون اختارت تايلاند رغم ما يربط الأردن بالاتحاد الأوروبي بقواعد تجارية مبسطة، وهي بمثابة اتفاقية تجارة حرة.
ان ابتلاع مؤسسة تشجيع الاستثمار، وهي المؤسسة التي كانت رديفة لهيئة تنشيط السياحة النموذجية التي تتمتع بالاستقلالية والدعم اللازم بسبب تمثيلها في مجلس الوزراء، في هيئة الاستثمار، كان خطئا جسيما. فالهدف المنشود كان التوفير على الخزينة، ولكنني أتساءل هنا عن هذا المنطق الذي أدى الى خنق مؤسسة رئيسية تُحدِث النمو وتُخلِق فرص عمل. لقد كان من الاجدر تعزيز امكانياتها التسويقية تحديدا بالكوادر البشرية المختصة والمالية لتوسيع نطاق خدماتها ولتعظيم قدرتها على تنفيذ مهمتها. المنطق لا يقول إن الشركتين المذكورتين سوف تختاران الأردن كموطن جديد لأعمالهما لو كان هنالك مؤسسة خاصة لجذب الاستثمار، ولكن يقول ان قرارات كهذه كثيرة في العالم وفي قطاعات مختلفة، فالمطلوب معرفتها والتعامل معها في مسعى لاستقطابهم هنا.
المبررات لوجود وزيرٍ للاستثمار عديدة ولا يمكن حصرها في سطور. فهو/هي يمكنهما ان يقودا عملية تغيير هادئة ينتج عنها مؤشرات تتناسب مع ما لدينا من معطيات جذابة، ويضعا حدا للفرص الضائعة. فيتم، مثلا، انتاج جهاز لتسويق الفرص الاستثمارية بحلة جديدة بالغة الحرفية تمكنها من تمويل ذاتها مستقبلا، بينما تبقى النافذة الاستثمارية والمؤسسات الأخرى تحت مظلة هيئة الاستثمار (او أي جهاز جديد). وهكذا، يقوم الجهاز المستحدث بالبحث وايجاد وجذب المستثمر باستخدام تقنيات عصرية، وتقوم “الهيئة” بتمكينه، فيما يقوم الوزير بإزالة المعيقات ان وجدت لحين بلورة نهج عملي ناضج يمكن بعدها الغاء المنصب. لقد تراجعت مكانة الأردن التنافسية بعد الهيكلة الأخيرة، ويُغشى ان يستمر بالتراجع بعد هيكلية جديدة أخرى في ظل غياب القيادة والخبرة والحاكمية المطلوبة لإدارة التغيير.

التعليقات مغلقة.