صحيفة الكترونية اردنية شاملة

هل بدء العد التنازلي للديمقراطية الليبرالية؟

في كتابه «الهوية: مطلب الكرامة وسياسات الاستياء»، يرى المفكر المعروف فوكوياما ان الديمقراطية الغربية في وقتنا الحاضر هي في حالة تهديد بسبب صعود الاتجاهات الشعبوية (أو ما سماه بسياسات الهويةIdentity Politics ) التي تعصف حالياً بالعالم الغربي، بما فيها أمريكا بعد فوز ترمب ومؤخراً بريطانيا بعد فوز بوريس جونسون برئاسة الوزراء هذا الأسبوع. فهل بدء العد التنازلي لنموذج الديمقراطية الليبرالية بعد ان اعتقد الكثير أنها تمثل “نهاية التاريخ”؟

الواقع أن ما يحدث في العالم الغربي ليس أمراً يسيراً يمكن تجاهله، وتداعياته على السياسة الدولية المعاصرة هي تداعيات جسيمة، سواء أكانت على العالم ككل أو على المنطقة والثقافة العربية. هذه التداعيات تأخذ حالياً مظاهر مثل معاداة الهجرة وتصاعد النسوية والتعطش للتغيير ودعم الحمائية التجارية والاسلاموفوبيا وما يسمى ب“صفقة القرن”، لكن يمكن أن تتجاوز ذلك في المستقبل ضمن ما يُعرف ب”أثر الفراشة” في النظام العالمي متزايد التعقيد.

وعليه، وفي اطار الدراسات الاستراتيجية والمستقبلية، لابد للعالم العربي والاسلامي أن يدرس بعمق هذا التحول السريع والضخم وأن يدرك انعكاساته قصيرة وطويلة الأجل على مستقبل العرب ومصالحهموهويتهم، وأن يستجيب لهذا التحول بما يصون الهوية والكرامة والمصلحة.

شخصياً، لا أعتقد بأن الديمقراطية الليبرالية ستنقرض في الأجل الطويل لكنها تئن وتعاني بحدة في المرحلة الحالية بالتزامن مع تداعيات الأزمة المالية والاقتصادية العالمية على عشرات الملايين من المهمشين في الغرب. فالديمقراطية الليبرالية تحتاج بالتأكيد الى تجديد وتحديث.ومظاهر المعاناة تتعدد وتتعقد مع مرور الزمن مما فتح الباب واسعاً أمام القيادات والأحزاب الشعبوية الغربية للإجهاز على “نهاية التاريخ”.

معرفياً، تعاني الليبرالية الغربية من هيمنة الشك الأخلاقي وتداعيات ما بعد الحداثة، حيث “كل القيم سواء” مما فتح الباب على مصراعيهللعدمية والنسبية الأخلاقية. ومن جانب الحوكمة والسياسة العامة، تعاني الديمقراطية الغربية من هيمنة النموذج التعددي وجماعات المصالح في السياسة حيث لا “هوية جامعة” ولا وجود للخير المشتركالموضوعي، مما جعل السياسات العامة مشلولة وتتحكم بها جماعات نافذة للمصالح الخاصة Special Interest Politics.

وفي الجانب الروحي، تجاهلت فلسفة العلوم ممثلة في الوضعية المنطقية القضايا الجوهرية والمصيرية والغائية النهائية، وتمسكت بالمحسوسات والعالم المادي، مما أوجد عجزاً روحياً مستداماً في العالم الغربي، رغم التقدم الاقتصادي والعلمي والعسكري الباهر.

القيم المشتركة ورأس المال الاجتماعي والروحانيات هي ليست أمراً عابراً أو ثانوياً يمكن تجاهله من خلال التطور التقني أو التقدم الاقتصادي، رغم أن الازدهار المادي يمكن أن يغطي على “اللامحسوس” مؤقتاً. لكن الديمقراطية الليبرالية في صيغتها الكلاسيكية المعاصرة اعتبرت هذا اللامحسوس أمراً غير لازم و”اضافي” في بناء المجتمعات وتطور الأمم.

لكن أثبت الواقع الغربي المعاش ان فشل السياسات التعددية/ الديمقراطية الليبرالية، حتى بنموذجها المحدث وهو الليبرالية الجديدة،وتنامي حالة الاستياء في العديد من الجماعات في الغرب بمن فيهم السود والنساء، قد أيقظ سياسات الهوية من سباتها من جديد بعد الحرب العالمية الثانية.

وسواء سميت بسياسات الهوية أو الشعبوية أو القومية أو العنصرية (تبعاً للموقف الأخلاقي منها!) فانها واقع معاش في العالم الغربي المعاصر في القرن الحادي والعشرين.

الديمقراطية الليبرالية لن تندثر في الأجل الطويل، لكنها متحجرة حالياً في انماط معرفية واقتصادية وسياسية عفا عليها الزمن في عصر الهوية وما بعد الحداثة وعلم التعقيد. وبنظري أنها فقدت في الوقت الراهن كثيرا من قيمتها المضافة وخضعت لقانون تناقص العوائد في علم الاقتصاد، رغم ان جوهرها المُكافح للاستبداد والفساد “ينفع الناس” وبالتالي فانها “ستمكث في الأرضوفقاً للسنن الاجتماعية الكونية التي أودعها الله عز وجل وحسب قوانين “علم القرآن التنموي”.

لكن أين الحل لمشكلة بحجم القيم والروح والهوية؟ الغرب طلّق الدين مع مطلع عصر النهضة بسبب ممارسات كَنَسيّة معروفة وتزوج العلمضمن مشروع التنوير على أمل الحصول على الحكمة والسعادة والمعرفة. فاذا فشل الدين الغربي والعلم التجريبي معاً في قضايا جوهرية مثل القيم والروح والمعنى والهوية فأين المخرج؟

باعتقادي، لا مخرج للعقل الغربي التنويري في الأجل الطويل الا بالاستعانة بالشرق (لِتَعَارَفُوا) بعد اعلان وفاة الاشتراكية وأنين الرأسمالية وبعد ضبابية “الطريق الثالث” الغربي. هذا صحيح تماماً بعد الشك المتزايد في الديمقراطية الليبرالية في ثلاثة مجالات على الأقل: (1) مبدأ “اليد الخفية” أو الأسواق الحرة “المثالية” كآلية للتنسيق الاجتماعي، (2) قدرة العقل على الاستقلال بتحديد القيم المثلى أو “الحياة الطيبة”، وأخيراً (3) قدرة العلوم الاجتماعية المعاصرة على تشخيص الواقع الاجتماعي وادراك قوانينه الثابتة والأساسية بما يساعد على حل مشكلاته من خلال الاصلاحات التدريجية.

ورغم ان الغرب السياسي بممارساته السياسية والاستعمارية قد ولّدبذور “الاسلام السياسي” (بمعنى استعادة الهوية والحركات السياسية) منذ العقد الثالث من القرن الماضي، لكن الغرب المتنورباعتقادي سيجد جذور حل أزماتهم الروحية والقيمية والاجتماعية والسياسية المعاصرة في الاسلام النقي (انما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) الذي يجمع بين العلم والايمان والعقل والروح والتطور والفطرةوالفردية والجماعية والمصلحة الذاتية والواجب.

وفي كتابيه “التصدع العظيم” و “الثقة”، أكد فوكوياما على أهمية “رأس المال الاجتماعي” والأخلاق والثقة بين الناس والفضائل الاجتماعية في ازدهار الاقتصاد. علماء سياسة بارزون مثل روبرت دال (منظّر التعددية الأبرز) وأنتوني داونز، واقتصاديون أعلام مثل كينيث بولدنج وجامس بوكانان وعلماء اجتماع مثل أميتاي إتزيوني، الى جانب فلاسفة كبار مثل كارل بوبر، يؤيدون رأي فوكوياما بأهمية القيم المشتركة في المجتمعات المعاصرة وفي تعزيز الديمقراطية الليبراليةبعيداً عن الأنانية الفردية.  

والاسلام بالتأكيد لا يرفض الليبرالية بمختلف أشكالها ونطاقاتها،والاسلام يقبل العديد من مناهج الديمقراطية التي تحمي الأمة من الزلل، كما انه يُقبّح العصبية (“كلكم لآدم” و”دعوها فانها منتنة). ولنتذكّر، مثلاً، مبدأ الشورى وسُنّة التدافع (الضوابط والتوازنات) ونظام السوق وحماية حقوق الملكية واعطاء العدالة التوزيعية وزنها في السياسات التنموية، وأيضاً يجب أن لا ننسى معيار الحوكمة عند الخليفة عمر بن الخطاب: أصابت امرأة وأخطأ عُمر تجاه رأي نسوي اسلامي بخصوص تحديد مهر الزواج!.

والاسلام، على عكس العديد من مؤيديه وناقديه، هو ليس ديناً معتمداًبشكل مهيمن على القانون والتشريعLaw-Based Religion بل هو دين قائم أساساً على التوحيد وعلى الأخلاق الفردية والاجتماعية،ولكنه بالتأكيد لا يتجاهل أهمية المعايير القانونية. وفي واقع الحال، فان النظام القانوني العلماني الذي لا يحمي صلب الدين هو ليس نظاماً علمانياً بل هو عدائي Domingo, 2016)).

لكن الاسلام بالتأكيد يضع اطاراً توجيهياً وحدوداً لمفاهيم الحرية والديمقراطية والتعددية بناء على مبادئ عامة وليس مصالح فردية أو فئوية. الغاية من هذه السقوف الدستورية هي: حماية المجتمعاتالبشرية في كل العصور من الخواء الروحي والعدمية الاخلاقية والتنازع القيمي على الهوية الوطنية، وكذلك من هيمنة الحرية السلبية على الحرية الايجابية كوجهين مهمين للحرية حسب أفكار اشعيا برلين. وهنا بالضبط يكمن مربط الفرس بعد أزمة الديمقراطية الليبرالية المعاصرة بصيغتها الغربية.

التعليقات مغلقة.