صحيفة الكترونية اردنية شاملة

للمساندة أصول… قولاً وفعلاً بقلم: فـــؤاد مطـــر

عندما أخذ الوعي اللبناني إغفاءة طويلة في النصف الثاني من السبعينات، ولم يُجْدِ تجاوباً النصح السعودي بأن يشق الذين يمعنون في جولات من أبشع أنواع الاحتراب الميليشياوي المذهبي، الطريق نحو التهدئة وإفساح المجال أمام التلاقي والتفاهم بالتي هي أحسن، فإن المملكة العربية السعودية لم تترك لبنان العرب على حاله المفجعة، فنشط رمز دبلوماسيتها الأمير سعود الفيصل سعياً عربياً ودولياً في سبيل تنفيذ توجيهات القيادة، بأن يتم تدارُك ما هو أعظم، بمعنى ألا تتهاوى الصيغة اللبنانية بتهاوي الشرعية، ثم لا يبقى من هذا الوطن الصغير سوى الاندثار بالتدرج. وانتهت جولات السعي إلى «اتفاق الطائف» الذي بات الحاضن للدستور اللبناني يرد عنه محاولات التنقيح والتعديل.
كانت المملكة في انطلاق سعيها المحمود معنية بلبنان الكيان المستقل والشعب بكل أطيافه، انطلاقاً من أنها تنشد الخير لهذه الأطياف، وليس لها حزبها الذي يبغي هيمنة ويسعى لاختصار الدولة في مشروعه، وتريد مساعدته وتوسيع هامش مشروعه العسكري والسياسي والمذهبي على نحو ما إيران تفعل. وفي السعي المحمود ذاك خاطبت القيادة السعودية اللبنانيين المتشابكين بلغة الضاد، فهم أبناء الأمة العربية التي المملكة عمودها الفقري الصلب، ولم يتم التخاطب على نحو ما حدث في مناسبة «الانتخاءة اللاريجانية»، حيث إن الزائر الإيراني الرفيع الشأن، المنتهية ولايته رئيساً للبرلمان، في انتظار نتائج انتخابات اعتبرها المرشد خامنئي واجباً دينياً لتفادي مفاجآت غير سارة، خاطب اللبنانيين المسؤولين والرأي العام وحتى الطيف الثنائي المستقوي سياسياً وسلاحياً به باللغة الفارسية. وهكذا الحال في كل زيارة للمسؤولين الإيرانيين، حيث المترجم من الفارسية إلى العربية دائم الحضور برفقة كل مسؤول زائر.
لن نتوقف كثيراً عند هذه الظاهرة، رغم غرابتها، كون الطيف اللبناني المحلق في فضاء الجمهورية الإسلامية الإيرانية يتبادل التخاطب مع الطيف الإيراني عن طريق مترجم، وإذا غاب المترجم لسبب ما، فإن لغة التخاطب تتعطل. وما ينطبق على الشرائح العادية من الناس بمَن فيهم الزوار العرب لمراقد دينية في إيران ينطبق على الإيرانيين الذين يزورون بين الحين والآخر لبنان، وهم قلة، في أي حال قياساً بالزوار اللبنانيين. هنا يجوز تسجيل نقطة نظام خلاصتها أن على أهل النظام الإيراني إذا كانوا يرومون حضوراً عربياً أن يتعلموا لغة الضاد والتخاطب بها مع أطيافهم العرب وخلال لقاءاتهم الرسمية مع مسؤولين في الدول العربية. وأما إذا كان بعض هؤلاء يتقن اللغة التي نزل الوحي بها على النبي العربي، لكنهم يتعمدون فقط التخاطب بالفارسية وترْك الترجمان يترجم، فتلك من جملة الأوزار التي تتسم بالتحرش بأحوال الآخرين، بالصواريخ الباليستية أحياناً، وبغليظ الكلام دائماً، فضلاً عن أنها تعتمد لغة الإمبراطورية المندثرة الساعية إلى إنعاشها على لغة كتاب الله.
الذي يستوقفنا هو إطلالة لاريجاني الذي يغلب فيها الغرض الكيدي والمصلحي على الجانب النخوي، فضلاً عن تغييب موجبات اعتماد الأصول والقراءة الموضوعية لمزاج الرأي العام في الدولة المزورة. وهنا يجوز القول إنه إذا كان الطيف الإيراني الهوى في لبنان، وإمساكه بالكفة الراجحة من الميزان السياسي حكومة وسياسة خارجية هو السبب الرئيسي في التردد الدولي والخليجي للمساعدة، فإن الزيارة اللاريجانية تكتسب في هذه الحال شكل مَن يريد زيادة تعقيد الأمور، وإبعاد إمكانية المساندة الخليجية والدولية للبنان، وليس إصلاح ذات البين. والبين هنا هو ترك الحديقة اللبنانية دائمة الاخضرار هادئة تنعم بالاستقرار. ومثل هذا الشعور قائم لدى اللبنانيين الذين طالما تساءلوا: أليست الحال التي يعيشها لبنان خير مناسبة لمن يتحمل وزر تعقيد الأمور وإلى درجة التعطيل، لكي يصحح فِعْله المؤذي. بل زيادة في التوضيح أليس حرياً بأهل الحُكْم الإيراني إذا هم في صدد تصحيح جانب من المسار إبلاغ الطرف اللبناني الذي يترجم تكليفاً مضامين الإرادة الإيرانية بأن عليه أن يقلب الصفحة المستفزة في كتاب السياسة اللبنانية، وبذلك يلقى هذا الموقف القبول من أطياف الشعب اللبناني، وكذلك من أطراف عربية ودولية تريد مداواة للجرح اللبناني الذي ينزف. لكن الذي حدث هو أن أهل الحُكْم الثوري في إيران أرسلوا من يقول بصيغة تتسم بالحذاقة ما من شأنه، ليس فقط يلقى الاستغراب، وإنما يؤكد أن إيران المرشد والحرس هي ضمناً مع سياسة المزيد من التعقيد ما دامت تغطي عقدة تعطيل المسار الذي يتيح المجال أمام الاستقرار المتدرج بالإعلان عن رغبتها بمساعدة لبنان في محنته المالية والاقتصادية، من جهة، ومحنة التفرد بالسياسة العامة للدولة داخلياً وخارجياً. وحيث إن اللبناني يتابع ما هو حاصل في إيران منذ ثلاث سنوات، وكيف أنها مثقلة بمتاعب مالية نتيجة العقوبات الدولية، الأميركية بشكل خاص، من جهة، ونتيجة إنفاقها السخي على أذرعها الخارجية التي تنفِّذ لها بعض روافد مشروعها، من جهة أخرى، فإنه لا بد تساءل: بماذا ستساعد إيران وهذه حالها. وحتى إذا ساعدت فأين ستمطر غيمتها. والأهم من ذلك هو أن مَن يريد أن يساعد أخاً في محنة لا «يؤذِّن» لهذه المساعدة، وإنما يعتمد الأصول. ولنا كحُسْن تصرُّف وللحكم الإيراني ما تفعله المملكة العربية السعودية وبعض دول الخليج في مثل حدوث أزمات تواجه بعض الأشقاء العرب. إنها لا تنتظر المناشدة للمساعدة. تبادر بوضع وديعة ثم إرسال مبالغ تفي بعلاج أولي في الحالة الطارئة المستجدة. هذا حدث مراراً مع لبنان إلى أن نشأ فيه من يعطل هذه النخوة في ساعة الشدة. وهذا حصل مع أكثر من دولة عربية أحدثها السودان، حيث كانت المساندة عفوية، ومكَّنت الظروف التي استجدت من ألا تنتكس. وفي كل هذه المساندات، لا وجود للسلاح، ولا للصواريخ، ولا المدربين على العمل المؤذي… ناهيكم بالكلام الجارح. وحتى إذا ارتبكت أحوال شعب من تأثير حجب مساعدات مقررة أممياً، كما حدث مراراً بالنسبة إلى الشعب الفلسطيني، وانعكس الحجب على المدارس والمستشفيات، فإن معالجة فورية تتم من جانب المملكة وبعض دول الخليج، وبحيث يبدو الأمر وكأنما لم يحدث الحجب. وكل ذلك دون إعلاء الصوت والإكثار من التصريحات في هذا الشأن.
تلك هي أصول المساندة المنزهة عن الشروط والتباهي بها. من يهمه المساندة يفعلها في منأى عن الإعلان الاستعراضي. لكن المسؤول الإيراني الرفيع الشأن جاء زائراً ونفسه أمَّارة بما ليس يخدم الاستقرار الذي ينشده اللبنانيون أملاً بإصلاح الحال وتجاوُز محنة هناك يد إيرانية في مسبباتها، وليس مجرد ثلاثة أصابع رئاسية. وعند التأمل في أجواء رافقت الزيارة اللاريجانية، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، رفْع تمثال قاسم سليماني ماداً يمناه في اتجاه فلسطين، وبتصميم شبيه من حيث الارتفاع والتصويب والذراع الممدودة بتمثال للصهيوني هيرتزل، وملاحظة كثيرين كيف أن كلا التمثالين رُفعا على أرض الآخرين، تمثال سليماني على أرض لبنانية، وتمثال هيرتزل على أرض فلسطينية… إننا عند التأمل في عدم استحسان رفْع هذه التماثيل التي ينطبق على تمثال سليماني تحريماً فتوى خمينية في شأن التماثيل، ثم الإكثار من «البوسترات» في شوارع من العاصمة بيروت، وعلى طريق مطارها، وكذلك بعض البلدات اللبنانية، وتمثل صورة قاسم سليماني وعبارة «دام رعبكم» والترويج تحت شعار «أنت تدعم… أنت تقاوم» في مدارس بعضها تضم أطفالاً دون العاشرة من العمر لتدعيم «حزب الله» مالياً في مواجهة الأزمة التي يعيشها لبنان، كما إيران، وذلك بالطلب من ذوي التلامذة صغاراً وكباراً الكتابة على أوراق رقم هاتف الأهل إلى جانب اسم الداعم، وقيمة المبلغ، فإننا نرى أن لاريجاني افتقد في زيارته الأصول قولاً وفعلاً، وأنه لم يأت ليطفئ… وإنما ليصرح بما يُبقي اللهب على حاله.

الشرق الاوسط

التعليقات مغلقة.