صحيفة الكترونية اردنية شاملة

وداعاً رفعت الجادرجي بقلم: حسين شبكشي

يواصل فيروس «كورونا» حصد الأرواح بعشرات الآلاف في معظم بلاد العالم.
لم يعد الفيروس يفرّق بين أحد، فالكل عنده هدف. ووسط هذه الأخبار السلبية المتلاحقة التي تحبط وتؤذي يأتي خبر آخر حزين عن رحيل أحد صناع الجمال في العالم العربي عموماً، وفي العراق تحديداً، والمقصود هنا هو خبر رحيل عراب العمارة العراقية الحديثة المهندس المعماري الاستثنائي رفعت الجادرجي، متأثراً بمضاعفات إصابته بفيروس «كورونا».

رحل الرجل صاحب الحضور الأنيق والذوق الرفيع والسيرة العطرة بعد عمر طويل ومسيرة عامرة بالإنجاز والإبداع. كان دمث الخلق رقيق اللسان وشديد التواضع وخجولاً جداً. كان دوماً قليل الكلام ويترك أعماله تتحدث عنه، رفعت الجادرجي ينتمي إلى زمن العراق الجميل، الذي أخرج لنا الأسماء العظيمة من أمثال نوري السعيد ونمير قيردار وعدنان باجه جي وناظم الغزالي وعلي الوردي ومهدي الجواهري وليلى العطار وغيرهم. نتاج عصر مضى جميل قبل أن يأتي بعده عصر العراق القبيح، بين سلطة فاشية طاغية بعثية ظالمة، وتلتها حقبة رجال الدين الطائفيين المنتقمين.
وُلد الجادرجي في مدينة بغداد عام 1926 لأسرة عراقية عريقة جداً، تعلم في إنجلترا وعاد لفتح مكتبه الاستشاري، وبدأ في تكوين فكره المختلف الذي جمع فيه بين حداثة الفن المعماري الذي انتشر في الغرب والتراث المعماري الأصيل في العمارة العربية عموماً والعراقية تحديداً. وواجه صداً واعتراضاً من أصحاب الفكر التقليدي المحافظ وحوربت أفكاره بحجة أنها دعوة للتغريب وبدعة غير حميدة. وأطلق بعض لمحات فكره المتجدد وذلك بتركيزه اللافت والجميل على اللمسات الجمالية التي أضافها على أهم المباني في أهم شوارع بغداد، وهو شارع الرشيد عندما اعتمد على «الشناشيل» أو النوافذ الخشبية المزركشة والأقواس الظاهرة في المباني المطلة على الشارع والمقرنصات الحديدية والخشبية البارزة من تلك المباني.
وذاع صيت الرجل ليصبح أحد أهم مصممي المعمار في العالم العربي. ولكن لأنه كان في العراق البعثي (مثله مثل سوريا البعثية تماماً)، زجّ به صدام حسين في سجن أبو غريب الشهير من دون محاكمة أو تهمة، وبقي فيه قرابة العامين ليفاجأ ذات يوم بإطلاق سراحه لمقابلة في القصر الرئاسي فوراً وطلب منه إعادة تصميم بغداد بشكل جمالي يليق بصدام حسين، ووافق الرجل على أن تُتاح له مغادرة العراق بعد إتمام ذلك. ورحل إلى الولايات المتحدة ليكون بروفسوراً يعلّم في أهم جامعاتها وهي جامعة هارفارد، ولم يعد للعراق إلا عام 2009. وصُدم بما رآه بعد أن تأكد له تحقيق ما حذّر منه وخطورة الهجرة القسرية من القرية إلى المدينة، وهدمها للمدنية والحضارة التي كانت موجودة. طغيان القبح على الجمال. ورحل بحسرة بعد أن تأكد أن هناك طغياناً طائفياً يهيمن على العراق، لا يقل وحشية عن الفاشية البعثية الصدامية التي أزيلت.
بقي بين بريطانيا وبيروت حتى رحيله عن دنيانا. عُرف عن الرجل إبداعه المعماري، ولكنه كان صاحب كلمة ورأي، سطر أفكاره في مجموعة مهمة من الكتب التي بقيت بعد رحيله. وُصف بأوصاف عديدة مثل: الراقي، والجنتلمان، والأرستقراطي، وهو كل ذلك وأكثر. وليس رحيله خسارة في حد ذاتها ولكن بخسارته يفقد العالم العربي نمطاً من الناس ينقرض، نمطاً جمع سمو الأخلاق والعلم الحقيقي وروح العطاء، هذه الخلطة لم تعد موجودة وحل محلها نماذج ممسوخة ومشوهة.
رحم الله رفعت الجادرجي رحمة واسعة، نبكيه ونبكي معه صفحة فريدة من تاريخ الجمال والأخلاق في العالم العربي.الشرق الاوسط

التعليقات مغلقة.