صحيفة الكترونية اردنية شاملة

الدولة الأردنية.. ديدنها الدائم الحوار

منذ أن وعينا على الحدث عبر «القراءة أو المتابعة أو المشاركة» في دولتنا الأردنية، التي تشارفُ على بدء مئويتها الثانية من عمرها، كان الحوار نهجاً دائماً وسبيلاً لحل الإشكاليات التي تنشأ بين الأطراف الوطنية الفكرية والسياسية. وكان الحوار وفي كل المراحل طريقنا إلى اتخاذ القرارات المفصلية، في ضوءِ ما يواجه الدولة من تحديات داخلية أو خارجية.

وأعتقد جازماً أن الحوار والتشاور كان واحداً من أهمِ العوامل التي مكّنت دولتنا من الحفاظ على ديمومة البقاء والتطور، بالرغم من أنها كانت في بيئةٍ إقليمية طالما كانت ملتهبة، وتعج بالأحداث الكبرى، بما فيها استهداف الدولة الأردنية حتى بوجودها. لقد كان الحوار على الدوام يُفضي إلى اتخاذ القرار السليم وفي الوقت المناسب. بل وأن الحوار والتشاور مكّن الدولة الأردنية عند باكورة تأسيسها من امتلاكِ مشروعها الوطني، والحفاظ على أساسياته والقدرة على اجتراح الأدوات والأساليب المناسبة داخلياً وخارجياً للتعامل مع كل مرحلة، بح?ث يبقى مشروع الدولة وأهدافها في الصدارة، دون أن يؤدي ذلك إلى انزلاق الدولة إلى المجهول..

وهذا أمرٌ يمكن قراءته في حقبِ ملوك الأردن الأربعة..

إن قراءة تاريخ الدولة الأردنية والاطلاع على مذكرات السياسيين الأردنيين، سوف تمُدنا بمئاتِ الصفحات التي تؤشر على أن اللقاءات الحوارية الطويلة بين أطرافِ معادلتنا الوطنية في الحكومة والمعارضة، والتي ما كانت في أحيان كثيرة تخلو من السخونةِ والاختلاف.. كانت بالنتيجة تؤدي إلى آراءٍ حصيفة سارت بالدولة الأردنية وِفق الخط السليم الذي يحفظ أمنها وديمومتها وتطورها، هذا دون أن يتخلى الأردن عن الأسسِ التي قام عليها والأهداف التي سعي من أجل تحقيقها..

(2)

«الملك المؤسس»

وإننا نلمسُ مبدأ تسييد الحوار والتشاور كقاعدة من قواعد الحكم في حقبة الملك المؤسس وبين كل الأطراف السياسية والاجتماعية والعشائرية، حوارٌ لم يكن يخلو من اختلافات، إلا أن جيل الأجداد وبالمجمل حافظ على تلك الخلافات في إطارِ الحَوْطةِ الوطنية دون أن يخرج بها لتصبح مادة لدخول من لا يريد للدولة الخير والاستقرار، وكأنهم حولوا تلك الخلافات إلى تنوعٍ إيجابي قوى من عضد الدولة لا إضعافها..

هذا بالرغم من أنها كانت الحقبة الأصعب، باعتبارها حُقبة التأسيس وترسيخ القواعد السياسية والإدارية اللازمة للنهوض والتطور وأولوية التخلص من الانتداب وإنجاز الاستقلال، وكذلك التوافق على الكيفية الأنسب للتعامل مع تطورات القضية الفلسطينية لكل ما حملت من تعقيدات وتباينات في المواقف في الدائرة العربية وتدخلات أجنبية متشابكة.

«الملك طلال»

ونرى ذلك جلياً في حقبة الملك طلال والذي وضع دستوراً حداثياً معاصراً للبلاد، جاء نتيجة حواراتٍ وطنية وانفتاح على كل القوى النشطة آنذاك. ذلك الدستور الذي ما زال الأردنيون يجدون فيه تجسيداً لميثاق الشرف الأدبي الذي خطهُ الهاشميون والأردنيون معاً عشية قدوم الملك المؤسس إلى الأردن..

«الملك الحسين»

أما حقبة الملك الحسين فقد كانت متميزة بهذا الخصوص، حيثُ كان لجيلنا شرف المشاركة في مراحل مهمة ومفصلية من تلك الحقبة، التي امتدت لأكثر من أربعة عقود، حيث كان الحوار وسماع الرأي الآخر والبناء على نتائجه ديدن الحسين ولم يُثنيه عن ذلك تراكم تجربته الشخصية العميقة ونجاحاته في الخروج بالأردن سالماً من مراحل صعبة وقاسية كثيراً.

فقد كان حواره مستمراً مع الجميع معارضةً وموالاة، نُخبٌ فكرية وسياسية واقتصادية واجتماعية ونقابية وإعلامية. انفتاحٌ أدى إلى المزيد من القوة والمنعة الداخلية حتى في أكثر المراحل حُلكة وظلاما وكانت النتيجة دائماً المزيد من التفاف الأردنيين جميعاً حول الدولة ونظامها الملكي ودستورها و مشروعها وأهدافها التي ما غاب عنها يوماً روحها الوطنية والعربية وعلى رأسها فلسطين.

«الملك عبد الله الثاني»

وهو ما شهدناه ونشهده مع الملك عبدالله الثاني، سواء كنا في المسؤولية أو خارجها. حوارات دائماً كانت تقود إلى التوجه الأسلم والأفضل للدولة وعلى كل الصُعد. فحوارات جلالته ومنذ اعتلى العرش مستمرة مع كل القطاعات وعلى كل المستويات، ومن تجربة شخصية وإبان إشغالي حقيبة «الداخلية» كُنا نشهد لقاءات ملكية أسبوعية مع مختلف الشرائح ومن شتى أنحاء البلاد، حيث يُبحث الشأن العام ويستمع الملك للمشاركين فتكون تلك جزءاً من المرجعية لاتخاذ القرارات المناسبة والتي تخرج من الناس وتنبض بمصالحهم. حواراتٌ لا تتوقف.. وأن أوراقه النقاش?ة ما زالت مادةً رئيسية للإصلاح الشامل.

ولا بد من ذكر أن الحوارات المكثفة بين الحكومة والبرلمان والقوى المنخرطة في الشأن العام بما فيها المعارضة، تلك الحوارات التي قادها الملك إبانَ فترة «الربيع العربي» هي التي حصّنت الأردن بأن يخرج معافى ولا ينزلق إلى الحال المؤلم الذي انزلق إليه الكثير من الأشقاء.

(3)

لذا وبالاستناد إلى هذا الإرث الطويل والإيجابي من الحوار والتشاور والاستماع إلى كافة الآراء في كل المواقع الرسمية والشعبية فإنني أتمنى على الرئيس عمر الرزاز وحكومته وعلى كل قوى المجتمع المدني أحزاباً ونقابات وهيئات، وقادة القطاعات الاقتصادية والاجتماعية، بأن لا يغادروا هذا النهج الذي ميّز الدولة الأردنية، وأن يبادر الجميع بلا حرج ولا مكابرة، إلى الانفتاح والتحاور حول كل المسائل المُعلقة والشائكة والمخُتلف عليها.

وبعد، إن الأردن في محيط عربي متوتر يعاني الأمرين، وأن ظروف القضية الفلسطينية وما تمر به من استقواء للاحتلال وإنكاره للحقوق الفلسطينية المشروعة وتحدي للآراء الدولية وتعديه على مصالح الدولة الأردنية، وأن وضعنا الاقتصادي والاجتماعي الحرج، وجائحة كورونا، يحتم علينا اللجوء إلى الحوار ثم الحوار ثم الحوار، إلى أن نصل إلى مناطق وسطى ترضي الجميع وعلى قاعدة حماية الدولة وعدم إضعاف مسيرتها التي نُريدها أن تكون دائماً إلى الأمام.

 

المهندس سمير الحباشنة

التعليقات مغلقة.