صحيفة الكترونية اردنية شاملة

جنرالات الحرب المدنيون . . !

0

من الظواهر الغريبة التي أصبحنا نلاحظها هذه الأيام، أنه عند وقوع أزمة أو حادثة عسكرية، يرتدي بعض الكتاب المدنيين بزة جنرال الحرب، ويطلقون أقلامهم في التحليلات الإستراتيجية وشرح العقيدة القتالية، والتنبؤ بأحداث المستقبل.
ومن خلال تلك التحليلات العشوائية، يقدمون التحذيرات والنصائح للمسئولين، دون معرفة بطبيعة الإستراتيجية العسكرية، أو العقيدة القتالية التي هي سرّ من أسرار الدولة. وهم بهذه الحالة يعتقدون أن الفعل أو رد الفعل لما يحدث، يجري تنفيذه من قبل المسئولين بصورة ارتجالية دون تفكير ودراسة لمخرجاتها. ولهذا أرغب أن أبين جانبا من الآلية التي يجب إتباعها في التعامل مع هذه الحالات من الناحية الإجرائية العسكرية.
فتعريف الإستراتيجية العسكرية هو: ” فن وعلم استخدام القوات المسلحة للأمة لتأمين أهداف السياسة الوطنية باستخدام القوة أو التهديد باستخدامها “. ويقول المنظّر الاستراتيجي كلاوزوفتز : ” إن الغاية من الحرب هي تحقيق هدف سياسي أو له تبعات سياسية “. كما أضاف أيضا: ” يجب على المنظّر الذي يرغب بفهم طبيعة البلاد وطبيعة الحرب، أن لا يسمح لأفكاره بأن تنحرف عن العنصر المركزي لكل من – القوة في السياسة، والعنف بالحرب “.
إن إطار العمل الإستراتيجي وقرار الحرب لتحقيق المصالح الوطنية يمر بمرحلة هامه تسمى ( تقدير الموقف الإستراتيجي ) والذي يمكن تلخيصه بثلاثة عناوين رئيسية هي : الأهداف، الأساليب، والوسائل ( Ends , Ways , and Means )، وهي عناوين علمية عسكرية لا يتسع المقام لشرحها في هذه العجالة.
إن مهمة القوات المسلحة كما هو معروف تحقيق المصالح الوطنية بالقوة، سواء كان ذلك من خلال عمليات دفاعية أو تعرضية داخل الحدود أو خارجها. فعندما تقرر الدولة بعد دراسة دقيقة واستخبارات موثوقة، أن المصالح الوطنية للدولة أصبحت مهددة من قبل العدو، ويستدعي الأمر استخدام القوة المسلحة، فعليها أن تبادر لمواجهته دون تردد وبالطريقة التي ترتئيها، آخذة بعين الاعتبار موقف الحلفاء والموقف الدولي العام. وقرار الدولة في هذه الحالة يكون مبنيا على معلومات دقيقة، يفتقر إليها المنظرون والكتاب المتطوعون في تقديم تحذيراتهم ونصائحهم المجانية.
لقد بلغ التردد – ولا أقول الجبن – لدى البعض بالتحذير من عودة جثامين القتلى، نتيجة للقتال ضد تنظيم داعش أو غيره خارج الحدود، مدعين بأن لا مصلحة لنا بمقاتلة ذلك التنظيم، لكونه لا يشكل خطرا على الأردن. وهذا ادعاء باطل ويخالف الواقع الذي واجهناه خلال الأعوام الماضية في فنادق عمان ومناطق اربد والرقبان والبقعة والكرك. وإضافة لذلك قد تكون هناك خلايا إرهابية كامنة مرتبطة بالتنظيم نفسه داخل الأردن، تنتظر إشارة العمل من قيادتها. ولهذا يجب أن تكون الجبهة الداخلية متماسكة، يعمل كل مواطن فيها رقيبا وحارسا لما حوله، وأن تكثف الأجهزة الأمنية نشاطاتها الأمنية في جميع الأماكن والأوقات.
صحيح أن العدو الأول للأمة العربية هو إسرائيل، والذي يجب أن توجه إليه كل فوهات المدافع، ولكن ليس الأردن وحده من لجأ لاستبدال المواجهة العسكرية بأخرى سياسية. بل إن مصر أكبر دولة عربية هي من فعل ذلك، عندما وقعت مع إسرائيل معاهدة كامب ديفد عام 1979 بصورة منفردة، وخرجت من ساحة القتال. ثم تبعتها منظمة التحرير الفلسطينية، التي عقدت مباحثات سرية بصورة منفردة أيضا، ووقعت اتفاقية أوسلو عام 1993التي أضعفت القضية الفلسطينية ووضعتها اليوم في مأزق كبير. وهذا ما أدى إلى دفع الأردن للتوقيع على معاهدة وادي عربة مع إسرائيل عام 1994. ومع ذلك ستبقى إسرائيل هي العدو الرئيسي والمواجهة معه مؤجلة إلى يوم قادم.
قد يتبادر إلى أذهان بعض المنظرين الجدد، أن العسكريين هم موظفين في القوات المسلحة من أجل المراسم والأعمال الروتينية، ويتجاهلون أن مهمتهم الرئيسية هي القتال كما تقرره الدولة داخل أو خارج البلاد، حفاظا على المصالح الوطنية. فهل يعتقد أصحاب الفكر الجديد أن على المتطوع في الخدمة العسكرية – سواء كان ضابطا أو جنديا – أن يُعطى له الخيار بأن يقاتل داخل الحدود فقط وليس خارجها ؟ إنا لا أدعو من حيث المبدأ إلى زجّ القوات المسلحة في صراعات عسكرية خارج الوطن، إلا إذا فرضت الظروف عليها ذلك وأصبحت المصالح الوطنية مهددة. ولكن ما نلاحظه هذه الأيام من أحاديث وكتابات بعض المنظرين الجدد، يخرج عن سياق التقاليد والأعراف العسكرية، ويدل مع الأسف على روح انهزامية تسيطر على عقولهم.
وهذا الوضع يدفعنا للتساؤل والمقارنة : لماذا يقاتل الجنود الأمريكيون والأوروبيون والروس وغيرهم، في العراق وسوريا وأفغانستان والصومال وليبيا وفوكلاند، وقبلها في فيتنام وكوريا سنوات طويلة، وتعود جثامين البعض منهم إلى مسقط رؤوسهم دون تذمر في إلاّ في حالات نادرة ؟ أليس ذلك ناتج عن ثقتهم وقناعتهم بقرارات قياداتهم، وأنهم يفعلون ذلك على بعد آلاف الأميال خدمة لمصالح أوطانهم ؟ علما بأنهم يمكن أن يعيشوا حياة مرفهة في بلدانهم، ويمارسوا أعمالا مدنية أقل خطورة من مهنة الجندية. ولكنهم يقبلون عليها بطواعية ورغبة كواجب وطني رغم المخاطر التي يتوقعونها.
لقد أثبتت السنوات الأخيرة هلامية التنظيرات والتوقعات التي سمعناها في حينه من قبل البعض، لأنها لم تستند أساسا إلى معلومات دقيقة، واتصفت بالكثير من السلبية. ولهذا يطلب من المنظرين الجدد أن لا يرتدوا بزّات الجنرالات العسكريين، ويعطوا فتاوى غير واقعية في الأزمات المحتملة ، التي قد تمر بها البلاد في المستقبل، دون معرفة بطبيعة المواقف الراهنة، فتشوش القراء وتنشر الذعر والبلبلة بين المواطنين.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.