صحيفة الكترونية اردنية شاملة

المديونية… تحويل التحد إلى فرصة

يبقى تحد الدين العام من أكبر التحديات التي تواجه دول العالم، حكومات وقطاع خاص وأفراد، وعلى الأخص النامية منها

 

يجب على حكومات العالم، وخاصة في الدول النامية، أن تخرج من عقلية إدارة الاقتصاد الوطني وتوجيهه من منظور مالي فحسب (سد العجز في الموازنة وتخفيف نسبة الدين العام للناتج المحلي الإجمالي)؛ بل يجب عليها أن تجعل تفكيرها إستشرافيا وعملها مبادرا بجعل تحفيز النمو الإقتصادي المستدام هدفا أسمى موجها لها.

يجب عليها أن تفكر في حلول غير تقليدية وخارج الصندوق لتحد المديونية لديها. ويمكن أن تشمل هذه الحلول على تجميع ديون هذه الدول في محافظ مختلفة يتم تشكيلها وتصميمها وفق حجمها ومصدرها وشروطها، وتصميم حلول استثمارية في مشاريع كبرى والسعي لاستبدال محافظ الديون بهذه المشاريع الكبرى.

السياسة الحصيفة هي استمرار كافة الدول، وخاصة النامية منها، بتنفيذ سياساتها وإجراءاتها النقدية والمالية والإقتصادية الداعمة والمحفزة لمؤسسات الإعمال فيها، لحين عودة مستويات الإنتاج فيها والسيولة لديها للمستويات التي سبقت أعوام الجائحة (مستويات 2019). فأي إجراء متسرع بتخفيف برامج الدعم الاقتصادي لهذه المؤسسات أو البدء برفع أسعار الفائدة سيكون له أثار وخيمة على وتيرة وزخم التعافي والإنتعاش الاقتصادي.

تواجه كافة دول العالم، متقدمة وناهضة ونامية، حكومات وقطاع خاص وأفراد، تحد رئيس يعوق من جهودها في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة المنشودة، ألا وهو تحد المديونية العامة. تحد قديم جديد، اكتسب أهمية خاصة خلال العام الأخير بسبب ارتفاع حجم الدين العام العالمي لمستويات غير مسبوقة، وبتسارع ونسبة نمو غير مسبوقة أيضا. مما أثار مخاوف وتوجس العالم وقلقه من جديد لإمكانية حدوث أزمة مديونية عالمية في المستقبل، وهو أمر لا يستطيع العالم تحمله في ضوء الهزات الصحية والاقتصادية والمالية العنيفة التي واجهها خلال العقد الأخير. مما يستوجب تضافر جهود كافة المعنيين، دولا وشركات وأفراد. للتعامل مع هذا التحد القديم الجديد بكل نجاعة واقتدار، وبشكل استشرافي ومبتكر ومبادر.

وفقا لآخر تقرير لصندوق النقد الدولي، بلغت قيمة إجمالي الدين العام العالمي (دول وحكومات وشركات ومؤسسات قطاع خاص وأفراد) 226 تريليون دولار (226 ألف مليار دولار) بنسبة 256% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. أي أن العالم حاليا مدان بأكثر من ضعفي ونصف ما ينتجه. زادت هذه النسبة بمقدار 30% خلال عام 2020 وحده (من 225% إلى 256%)، مقارنة مع زيادة مقدارها 20% خلال عامي الأزمة المالية 2007-2009 (من 195% إلى 215%) و10% فقط خلال العشرة أعوام التي تلتها بين 2009-2019 (من 215% إلى 225%). ووفقا لنفس التقرير يتوقع أن تتجاوز مديونية الأردن حاجز ال 50 مليار دولار عام 2021، بنسبة 113% من الناتج المحلي الإجمالي، مقارنة مع 12 مليار دولار في عام 2007 و13.9 مليار دولار، بنسبة 55% من الناتج المحلي الإجمالي فقط، في عام 2009. تحد ضخم يوجب علينا جميعا أن نبدأ فورا بالتفكير بحلول إبداعية ابتكارية خارج الصندوق لننقذ وطننا من دوامة الدين التي علق بها ولا يستطيع الإفلات منها طوال أكثر من عقد من الزمن وما زال.

باديء ذي بدء، يجب التأكيد على أن ألإقتراض بحد ذاته لا يكون مشكلة، مهما كانت نسبته إلى الناتج المحلي الإجمالي، إذا ما توفر له شرطان رئيسان: سعر فائدة منخفض من ناحية وتوجيهه نحو تحفيز النمو الاقتصادي المستدام، وليس لتغطية نفقات جارية أو سد عجز في الموازنة. فالإقتراض إذا ما تم تأمينه وتوفيره وفق شروط ملائمة واستغلاله بشكل ملائم سيساهم في تحفيز الاقتصاد الوطني وحل مشكلة البطالة وتحسين معيشة المواطن وزيادة الإنتاج الوطني، فبالتالي تخفيض نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي على المديين المتوسط والبعيد.

وعليه، ومن النظرة المتفحصة للمديونية العالمية، حجمها وتركيبتها وأسبابها وأثرها، يتبين أن:

أولا: ألزيادة الكبيرة جدا (30%) في حجم الإقتراض نسبة للناتج المحلي الإجمالي خلال عام 2020، عالميا وأردنيا، كان مردها الإجراءات الحكومية الصحية والإقتصادية للتعامل مع الجائحة. صحيا، قامت حكومات العالم، ومنها الأردن، بزيادة قدراتها الصحية من خلال إنشاء المستشفيات الميدانية وتوسعة المستشفيات القائمة وزيادة عدد الأسرة وتوسيع وحدات العناية المركزة وزيادة أعداد أجهزة التنفس فيها، وزيادة عدد الأطباء والممرضين وفنيي المختبرات وفرق التقصي وشراء المطاعيم وغيرها. أما الإجراءات الإقتصادية فشملت تخفيض أسعار الفائدة (تم تخفيضها إلى صفر % في الولايات المتحدة و1.5% في الأردن) وتأجيل سداد أقساط القروض بدون رسوم تأخير وفوائد وبرامج الإقراض بدون فائدة بهدف المحافظة على العاملين وإعادة شراء السندات وتخفيض مستويات الاحتياطيات الإلزامية في البنوك وبرامج دعم المنشئات الاقتصادية الصغيرة والمتوسطة وأخرى للمنشئات الاقتصادية الكبيرة، بالإضافة إلى الدعم المالي المباشر للمواطنين وعلى الأخص للأسر العفيفة والعاملين بالمياومة. كافة هذه النفقات الكبيرة كانت نفقات طارئة ولم يكن مخططا لها في موازنات 2020 مما اضطر حكومات العالم للإقتراض بشكل كبير لتأمينها.

ثانيا: ألنسبة الأكبر في الزيادة في الإقتراض خلال العام الماضي كانت للحكومات (24% من أصل 30% نسبة الزيادة في الإقتراض للناتج المحلي الإجمالي)، بينما كان القطاع الخاص هو المدين الأكبر خلال الأزمة المالية العالمية بين عامي 2007-2009 (14% من أصل 20%). وهذا أمر متوقع، حيث كان تركيز الحكومات خلال أعوام الجائحة (2020-2021) على حماية صحة مواطنيها والحفاظ على مؤسساتها الاقتصادية من التعثر والإعسار والإفلاس وحماية الوظائف فيها. بينما كان القطاع الخاص هو المتسبب الرئيس في الأزمة المالية العالمية الأعوام 2007-2009، فوجب عليه تحمل العبء الأكبر للخروج من المأزق الذي وضع نفسه والعالم باسره فيه.

ثالثا: ألهدف الرئيس من الاقتراض الكبير خلال العام الماضي كان تمكين الشركات والمؤسسات الاقتصادية من البقاء والنجاة بالحد الأدنى، والحفاظ على موظفيها، دون القدرة على، أو حتى مجرد التفكير بزيادة الإنتاج، وذلك بسبب الخلل والشلل التام الذي أصاب كافة حلقات سلسلة الإنتاج (مستخرجي وموردي المواد الأولية ومستلزمات الإنتاج والمنتجين والناقلين والمستوردين والبائعين والمستهلكين).

رابعا: تمكنت الدول من تحقيق التكامل والتوازن بين سياساتها النقدية والمالية (تخفيض أسعار الفائدة وتأجيل سداد القروض وإعادة شراء السندات وتخفيض الإحتياطات وضخ الإموال في الأسواق وخفض الضرائب… إلخ) والإقتصادية (برامج الدعم والتحفيز الاقتصادي) والإجتماعية (برامج الدعم الاجتماعي للأسر العفيفة والعمال بالمياومة… إلخ) خلال أعوام الجائحة (2020-2021). يكمن التحدي الآن في استدامة هذا التكامل والتوازن خلال المديين القصير والمتوسط.

خامسا: فيما يتعلق بالأثر، فإن زيادة الدين العالمي بهذا الشكل غير المسبوق تزيد من المخاطر وتقلل من قدرة الدول/الحكومات على مزيد من الإقتراض للإستمرار في دعم قطاعاتها الاقتصادية ومواطنيها. كما أن هذه الزيادة في الدين لمؤسسات القطاع الخاص والأفراد تحد من قدرتهم على الإستثمار في تطوير أعمالهم القائمة أو توسيعها في مجالات جديدة على المديين القصير والمتوسط، مما يحد من قدرتهم على زيادة انتاجيتهم. بالرغم من ذلك، فإن حدوث أزمة دين عالمية في المستقبل هو أمر مستبعد في ظل بوادر الإنتعاش الاقتصادي التي بدأت تشهدها عدة قطاعات اقتصادية في العديد من الدول.

مع بداية العام الجديد، ومع بدء التعافي والإنتعاش الاقتصادي في بعض القطاعات الاقتصادية، بدأت بعض الحكومات في العالم التفكير بتخفيف إجراءاتها المالية والإقتصادية الداعمة لقطاعاتها الاقتصادية. كما تتجه بعض البنوك المركزية للتفكير في رفع أسعار الفائدة لكبح جماح تضخم متوقع مستقبلا. وهو أمر يجانب الصواب وتوجه متسرع وسابق لأوانه وسيكون له آثار سلبية كبرى على عملية التعافي والإنتعاش الاقتصادي والتي بدأت تكتسب زخما خلال الأشهر الأخيرة.

فمن ناحية فإن الجائحة لم تنته بعد. حتى مع ازدياد أعداد ونسب المطعمين، فإن المتحورات المتكررة ما زالت تحدث عواقب صحية واقتصادية وخيمة. وحتى لو تمت السيطرة المتقدمة والفاعلة على الجائحة بكافة متحوراتها المستقبلية، فإن العواقب الاقتصادية الوخيمة لها ستستمر ويلمس أثرها ولعدة سنوات قادمة.

كما أن زيادة أسعار الفائدة تشكل بشكل عام عاملا منفرا للإقتراض لغايات الإستثمار والإنتاج في أي وقت وزمان. ومما سيزيد من سوء هذه السياسة، في حال تبنيها في الوقت الحالي، أن الحكومات والشركات والأفراد مثقلون حاليا بالقروض الضخمة التي استدانتها خلال ألعامين الماضيين. فأي زيادة على أسعار الفائدة ستزيد الضغط وأعباء خدمة الدين على كافة هذه الأطراف. ألحكومات، وخاصة في الدول النامية، ستبقى غارقة في دوامة سد الدين والعجز في الموازنة بدلا من توجيه تركيزها وجهودها نحو الإستثمار التنموي المستدام. وكذلك الحال بالنسبة للشركات والأفراد. من هذا المنطلق، أبدى الفيدرالي الأمريكي مثلا استعداده لتقبل مستويات تضخم أعلى من ال 2% المستهدفة سابقا له قبل البدء بالتفكير برفع أسعار الفائدة، هذا مع العلم بأن نسبة التضخم في الأردن لم تتجاوز 1.5-1.8 % خلال عام 2021، وليس من المتوقع لها أن تتجاوز 2% خلال عام 2022، مما لا يشكل أي مبرر للتفكير في رفع أسعار الفائدة في الوقت الراهن.

ألسياسة الأكثر حصافة هي استمرار كافة الدول، وخاصة النامية منها، بتنفيذ سياساتها وإجراءاتها النقدية والمالية والإقتصادية الداعمة والمحفزة لمؤسسات الإعمال فيها لحين عودة مستويات الإنتاج فيها والسيولة لديها للمستويات التي سبقت أعوام الجائحة (مستويات 2019). فأي إجراء متسرع بتخفيف برامج الدعم الاقتصادي لهذه المؤسسات أو البدء برفع أسعار الفائدة سيكون له أثار وخيمة على وتيرة وزخم التعافي والإنتعاش الاقتصادي الذي بدأنا نشهده في الآونة الأخيرة.

وفي حال ارتأت بعض البنوك المركزية أن هنالك بوادر قوية لحدوث تضخم مستقبلي وبنسب كبيرة، وهو ما لا اظنه محتملا أو مرجعا في معظم دول العالم ومنها الأردن خلال المستقبل القريب والمنظور، فإن عليها أن تقوم بذلك بنسب قليلة وبشكل متدرج وبطيء ومتباعد زمنيا وموجه. فحتى لو تمكنت بعض المنشئات في بعض القطاعات الاقتصادية الأكثر تأثرا بالجائحة (مثل قطاعات السياحة والترفيه والنقل وغيرها) على التعافي، فهذا لا يعنى بالضرورة أن كافة المنشئات في هكذا قطاعات قد تمكنت من ذلك لغاية الآن.

يجب على حكومات الدول النامية أن تبدأ فورا بالتفكير جديا لإيجاد حلول غير تقليدية وخارج الصندوق لتحد المديونية لديها. ويمكن أن تشمل هذه الحلول على تجميع ديون هذه الدول في محافظ مختلفة، يتم تشكيلها وتصميمها وفق حجمها ومصدرها وشروطها، وتصميم حلول استثمارية في مشاريع كبرى (مثل المدن الجديدة ومشاريع النقل البري الكبرى/ سكك حديد متقدمة والمشاريع الزراعية ومشاريع المياه الكبرى ومشاريع الطاقة المتجددة من شمس ورياح ومشاريع تدوير النفايات وغيرها)، والسعي لاستبدال محافظ الديون بهذه المشاريع الكبرى. هكذا حلول غير تقليدية ستساهم في تخفيف ورفع أعباء الديون الثقيلة عن أعباء الدول من ناحية، كما أنها ستوفر وتؤمن بنفس الوقت استثمارات ضخمة في مشاريع كبرى الدول النامية في أمس الحاجة إليها لتحفيز عملية التنمية الاقتصادية المستدامة وحل مشاكل البطالة المتفاقمة فيها. وفي هذا السياق، يمكن للدول النامية، ومنها الأردن، الإستفادة من ال 100 مليار دولار والتي التزم العالم بتخصيصها لمشاريع المناخ فيها ، وذلك في مؤتمر المناخ (COP 26) والذي عقد في اسكوتلندا شهر تشرين ثاني/ نوفمبر الماضي.

يجب على حكومات العالم، وخاصة في الدول النامية، أن تخرج من عقلية إدارة الاقتصاد الوطني من منظور مالي فحسب (سد العجز في الموازنة وتخفيف نسبة الدين للناتج المحلي الإجمالي)، وجعله الموجه الرئيس لتخطيط وتوجيه الاقتصاد وإعداد الموازنات. بل يجب عليها أن تجعل تفكيرها إستشرافيا وعملها مبادرا بجعل تحفيز النمو الإقتصادي المستدام هدفا أسمى موجها لها.
يبقى تحد الدين العام من أكبر التحديات التي تواجه دول العالم، حكومات وقطاع خاص وأفراد، وعلى الأخص النامية منها. وقد اكتسب هذا التحدي اهتماما خاصا خلال العام الأخير بسبب الإرتفاع غير المسبوق في حجم الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي. ألبدء بالتفكير برفع أسعار الفائدة الآن وتخفيف برامج الدعم النقدي والمالي والإقتصادي الموجه للقطاعات الاقتصادية لمواجهة أية توقعات مستقبلية بحدوث تضخم هو أمر يجانب الصواب وسابق لأوانه في الوقت الحالي، وسيكون له إثار عكسية كبيرة على زخم عملية الإنتعاش الإقتصادي التي بدأت تشهدها بعض القطاعات الاقتصادية. هذا التحدي الرئيس يمكن التعامل معه بنجاح وتحويله إلى فرصة إذا ما تم وضع وتنفيذ إستراتيجية استشرافية ابتكارية لإدارة الدين العام تستند إلى مبادلة حزم هذا الدين بمشاريع إقتصادية كبرى في مجالات البنية التحتية والنقل والزراعة والطاقة المتجددة. مما سيسهم في رفع عبء الدين العام من جهة وجذب استثمارات أجنبية كبرى، الدول النامية بأمس الحاجة لها لحل مشاكل الفقر والبطالة المتفاقمة فيها من جهة أخرى.

حفظ الله الأردن عزيزا وقويا ومنيعا… وحماه شعبا وأرضا وقيادة…

التعليقات مغلقة.