صحيفة الكترونية اردنية شاملة

العولمة الاقتصادية .. أهي نعمة أم ماذا حدث؟

لن يستطيع الأردن أن يكون معزولا عن العالم وليس لنا مصلحة في ذلك، فالعالم يحتاجنا ونحن نملك أهم وعاء من الطاقات البشرية الفتية. نحن نملك حقوق ملكية الإصرار والمثابرة، نحن نمتلك محبة العالم لنا، نحن ما نحن عليه ونفتخر به.

كنا نسمعها ونرددها ولكن لم نشعر بها بحكم أن أمور العباد كانت سلسة في مسارات الحياة، فهذه العولمة نشأت عبر التاريخ المعاصر وتطورت وتشعبت ودخلت في مراحل مختلفة مرتبطة بتدويل التدفقات العمالية أولا وتبعتها التجارية وبعدها توطين الشركات في خارج بلادها لنصل الى أشدها بالاعتماد الكلي لبعض الدول على غيرها ، وهذا ساهم في تطوير وسائل النقل المختلفة لتسهيل تدفق المواد والسلع وتعقدت عمليات سلاسل الامداد والتزويد وتسارعت منظوماتها المختلفة مما أوصل الكثير من دول العالم لعدم الاحتفاظ بأي مخزون والاعتماد على سلاسة هذه السلاسل.
فأمريكا نقلت الكثير من مصانعها الى الصين وكوريا ودول أخرى، والصين وضعت استثماراتها في الأسواق الامريكية، وأوروبا اعتمدت بنسبة كبيرة من حاجتها من الطاقة مثلا على دول أخرى ومحددة بحكم القرب والكلفة وندرة الموارد وتغول أسعار المشتقات المالية وتأثيرها على اقتصاديات الدول. الدول الخليجية استخدمت النفط كمحرك رئيسي لاقتصاداتها وجنت العوائد الكبيرة وأسست صناديق سيادية وضخت فوائض أموالها بها، ولكن كل هذا وذاك كان يتبع المستهلك وسلوكه وهذا مدخلنا.
أهم ما يؤرق العالم حاليا من صغيره الى كبيره تحركات أسعار الفوائد ولماذا الكل ينتظر الفيدرالي الأمريكي حين يجتمع ليعلن رفع سعر الفائدة أو تخفيضه ولماذا الدولار الأمريكي مؤثر لهذه الدرجة؟
العولمة ومخرجاتها أفرزت تضخم كبير بالديون على دول العالم فقد وصلت ديون العالم نسبة الى ناتجها المحلي الإجمالي ما نسبته 348% أي أكثر من ثلاث أضعاف ناتجها، منها 92% على الحكومات والباقي على الشركات والافراد. تعدد المغريات للمستهلك النهائي أخذته في مسار الاستهلاك المفرط، وبالجانب الاخر توفرت له أدوات تمويلية فاقمت قدرته على تحمل أعباء هذا التمويل، فاقترضت الدول لتنتج أكثر وتصدر وتستورد، وأقترض المستهلك ليشبع حاجاته فزاد الطلب وتعاظمت مغريات العرض، فاذا بهذه الديون تتضاعف وكلها مرتبطة بشبح الكلفة والتي أهمها الفوائد.
عبر العقود الماضية ومنذ عام 1945 ولا زال وسيبقى الدولار الأمريكي هو العملة الأساسية في التداول بمختلف أدواته، وهو العملة الأولى المهيمنة في العالم. ففي وقتنا الحالي، يتم استخدام الدولار فيما يقرب من (85٪) من جميع معاملات الصرف الأجنبي، كما أن ما يقرب من ثلثي جميع الاحتياطيات التي تحتفظ بها البنوك المركزية في العالم هي بالدولار، وما يقرب من (40٪) من الديون العالمية مقيدة بالدولار، فلنتخيل كيف يؤثر تحرك سعر صرف الدولار لقاء العملات الأخرى وسعر الفائدة على اقتصاديات دول العالم واحتياطاتها وديونها واستثماراتها وصناديقها. هذا بالإضافة الى أن عشرات الدول مثبتة عملتها بالدولار الأمريكي. فلذلك نرى وعند إعلان الفيدرالي الأمريكي رفع سعر الفائدة تلحقه العديد من الدول فورا. ولكن أين الاختلاف والمفارقة بين أمريكا ودول العالم؟
يواجه العالم اليوم واقع التضخم وشبح الركود، فالتضخم هو الزيادة المستمرة في المستوى العام لأسعار السلع والخدمات والركود هو الهبوط في النمو الاقتصادي لكون الإنتاج يفوق الاستهلاك أي بشكل مبسط يترجم بضعف القوة الشرائية، مما يؤدي الى تراكم السلع وانخفاض الأسعار ولكن ليس هناك قوة شرائية! وهذا بدوره يؤدي الى تخفيض الايدي العاملة لأنها أسهل فاتورة للتحكم بكلفتها وبذلك ترتفع نسب البطالة. فماذا نرى اليوم؟
نحن اليوم نعيش الخليط بينهما وهو ما يسمى الركود التضخمي أي هناك نمو اقتصادي ضعيف وبطالة عالية والاهم هو سلوك المستهلك الحدي الذي فأجأ العالم ويعود سببه الرئيسي جائحة كورونا وما أفرزته فقد وضعت الافراد في دوامة صراع البقاء.
في أمريكا يعتبر مؤشر الاستهلاك هو المحرك الأساسي لاقتصادها ممثلاً حوالي ثلثي الإنتاج المحلي الإجمالي لها، ويحمي تفوق الدولار الاقتصاد الأمريكي من الصدمات الناشئة في الخارج. فبغض النظر عن حالة الاقتصاد العالمي، يُنظر إلى الدولار على أنه استثمار جذاب. فعندما يكون الاقتصاد الأمريكي قوياً، يضخ المستثمرون الأموال في السوق الأمريكية، مما يزيد من الطلب على الدولار ويعزز وضع العملة. بل إنه عندما يكون الاقتصاد العالمي ضعيفاً أو كانت توقعاته غير مؤكدة، يدفع المستثمرون الأموال أيضاً للسوق الأمريكية، مما يؤدي بالمثل إلى ارتفاع قيمة الدولار. فالوضع القوي للدولار يعزل المستهلكين في الولايات المتحدة عن تقلبات الأسواق العالمية، ويحمي مستوى معيشتهم. ومن هنا فإن رفع سعر فائدة الفيدرالي الأمريكي سيكون أثرها مباشر في منظومة اقتصادها. ولكن ماذا عن باقي دول العالم؟
ستنجح الولايات المتحدة بالسيطرة على التضخم والحد من الوصول الى الركود وسيصدر التضخم الى دول أخرى وستعلق به نتيجة لتعلقها المباشر بالدولار القوي وتفاقم ديونها وشبح البطالة فيها لضعف القوة الشرائية، إضافة الى حاجة الدول الى التحول من العولمة الى اللاعولمة ومن المركزية الى اللامركزية ومحاولة تعزيز قدرتها من الاكتفاء الذاتي في السلع والخدمات وأهمها الطاقة والغذاء. ولكن هذا فيه نوع من المستحيل! فاعتماد الدول على ذاتها يحتاج الى استثمارات ضخمة في البنية التحتية واستخراج الموارد الطبيعية ولكن لا تملك هذه الدول ترف الوقت ولا تملك المال الكافي فهي مثقلة بالديون، والاهم تعطل سلاسة سلاسل الامداد والتزويد والهم الأكبر هو التشغيل والحد من البطالة. ما هذا … وما الذي يحدث؟
كيف لدول العالم الاعتماد على ذاتها في الغذاء و30% من البيئة الخصبة متركزة في دولة واحدة وهي أوكرانيا، واليوم نشهد ما يحدث في الحرب القائمة؟ كيف لدول العالم الاعتماد على ذاتها وهناك دول أوروبية تعتمد على الطاقة من روسيا واوكرانيا بنسبة تقارب 60%؟ كيف لدول العالم الاعتماد على ذاتها وهناك شبح التغير المناخي يسيطر على منظومة البقاء والبيئة والصحة؟
الحل هو البدء والعودة الى قواعد الأساس، فما أفرزته جائحة كورونا وما تبعها من تعطل سلاسل الامداد والتزويد والحرب الجائرة حاليا وهيمنة التكنولوجيا على الاعمال والعقول وتعقد الأدوات المالية وظهور العملات المشفرة التي لا تمت بصلة بأي نوع من أنواع التنمية ولا تخلق أية قيمة مضافة في الاقتصاد، وجب على الجميع وفي كل دول العالم أن يتوجه الى حماية البلاد والعباد.
الأردن، وعلى الرغم من محدودية مواردها وضعف أدواتها فقط استطاعت أن تواجه تيارات هذه العواصف كلها وتبقى صامدة ومن يعتقد غير ذلك فهو واهم وعليه أن يعود لقراءة هذا المقال ويتمعن! نحن أوجدنا منظومة البقاء وصحيح أن هناك تحديات وصعاب وترهلات ولكن نسير في منظومات التحسين. الثالوث الذي أمر به سيد البلاد من إصلاحات سياسية واقتصادية وإدارية رسم مسار المستقبل والتنفيذ السليم هو طريقنا للخلاص، وهذا يحتاج منا جميعا المثابرة والسعي والحزم وعدم التردد.
لن يستطيع الأردن أن يكون معزولا عن العالم وليس لنا مصلحة في ذلك، فالعالم يحتاجنا ونحن نملك أهم وعاء من الطاقات البشرية الفتية. نحن نملك حقوق ملكية الإصرار والمثابرة، نحن نمتلك محبة العالم لنا، نحن ما نحن عليه ونفتخر به.
الطاقة الإيجابية خلاصنا، وإذا شعرنا بالضغطة فلننظر حولنا ونتأمل لنعرف أننا بحال أحسن من حال.

التعليقات مغلقة.