صحيفة الكترونية اردنية شاملة

ما بَعدَ قانون تنظيم البيئة الاستثمارية – لغة الأرقام

حسب بيانات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)، فقد زاد الاستثمار الأجنبي المباشر في العالم بواقع 535 مليار دولار بالمقارنة ما بين الربع الأول من السنة الحالية والربع الأخير من عام 2021. وقد شهد عام 2021 حجم استثمار أجنبي مباشر بواقع 1،54 ترليون دولار في العالم. وبمعنى آخر، وبالرغم من أثر جائحة كورونا والظروف المختلفة التي تواجه العالم، فان هنالك مبالغ هائلة تمت تداولها في الاستثمار. ولإعطاء هذه الأرقام صبغة محلية، فان أكبر حجم استثمار شهده الأردن كان في عام 2008 وبلغ 2 مليار دينار، وهي ذات الحقبة التي شهدت البلاد اعلى نسب نمو، والقانون النافذ في حينه كان قانون عام 1995 الذي تأسست بموجبه مؤسسة تشجيع الاستثمار.

ثَمَنّتُ فرصة المشاركة في حوارين حول مشروع قانون تنظيم البيئة الاستثمارية المنظور حاليا في مجلس النواب، الأول في المنتدى الاقتصادي الأردني الذي انتسب له، حين سعدنا باستقبال الفريق الاقتصادي في مجلس الوزراء الموقر، والثاني في لجنة الاقتصاد والاستثمار في مجلس النواب الأردني. وفي كلا المناسبتين، نوقشت المبادئ الرئيسية التي شكلت القاعدة لسن هذا القانون، وتفاصيل مواده، بحثا عن الركائز التي ستساهم في زيادة حجم الاستثمار في الأردن، مما سيخلق فرص عمل جديدة وتُقلِص من نسب البطالة العالية، وهذا هو المبدأ الرئيسي الذي تأسس عليه المنتدى الاقتصادي الأردني، والذي يرتكز على نسب البطالة لقياس الأداء الاقتصادي.

يحتوي مشروع القانون الجديد على عدد من البنود التي لا بد أنها ستنظم البيئة الاستثمارية وتعزز من ثقة المستثمر، مثل تعويض المستثمر عن الخسائر الناتجة عن سن قوانين أو أنظمة جديدة لم تكن بالحسبان، والربط فيما بين الإعفاءات الضريبية وفرص العمل الجديدة، وتشكيل لجنة تنظر بالحوافز بالرغم من إنني كنت أتمنى أن أجد فيها تمثيلا من القطاع الخاص، وتنظيم الجهات الرقابية، وهنالك عدة بنود تتحدث عن زيادة الفرص للمرأة، وغيرها من البنود الإيجابية.

كما تابعت اللقاءات التي أجريت عبر وسائل الإعلام حول هذا القانون، وقد كان واضحا من معظم الآراء المقدمة أن هذا القانون بحد ذاته لن تؤدي الغاية التي كانت منتظرة منه، إلا وهو أن يقوم بدور مباشر في زيادة الاستثمار، ولذا أن تأثيره على الحد من نسب البطالة، وهو أكبر تحدي أمامنا اليوم، غير معروف أو قليل بأحسن الأحوال. وهذه الآراء متشابهة لما تم التعبير عنه في المناسبتين التي أشرت إليهما سابقا، والمُتفِقة على أن الحل لمعيقات الاستثمار هو برفع الكفاءة الإدارية بالإضافة الى التطبيق. وفي احدى المقابلات المرئية، سأل مقدم البرنامج المسؤول السابق، وهو أيضا من رجال الاقتصاد المعروفين، هل يعتقد فيما إذا كان القانون الجديد سوف يقلل من حجم الاستثمارات للأردن، فكانت إجابته دالة على ذلك.

فقانون عام 2014 أيضا جاء لينظم البيئة الاستثمارية ويجعلها أكثر منافسا ومستقطبا للاستثمار. ولكن هذا لم يحدث، فنسب البطالة استمرت في الزيادة، ومكانة الأردن في التصنيفات العالمية بقيت كما هي، أو انحدرت في بعضها، بسبب أن بعض الدول تجاوزته. فهل ننتظر عدة سنوات لقياس تأثير هذا القانون لحين نخرج بقانون جديد آخر لتنظيم البيئة الاستثمارية، أو هل نبحث عن حل واقعي.

البيئة الاستثمارية في الأردن ليست سيئة، وهي أفضل من نصف دول العالم حسب تصنيف المجتمع الدولي لنا. فعند الاطلاع على أحدث تقرير صادر عن البنك الدولي عام 2020، فان ترتيبنا في مؤشر سهولة مزاولة الأعمال أعلى من دول نجحت باستقطاب استثمارات اجنبيه أكثر منا (بيانات عام 2019: الأردن 730 مليون – هنغاريا 4،3 مليار – البرازيل 65،3 مليار– جورجيا 1،3 مليار – المغرب 1،7 مليار) حسب “تقرير الاستثمار العالمي لعام 2022” الصادر عن مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد). كما إن تصنيف الأردن قريب جدا من تصنيف دول كبرى مستقطبة للاستثمار مثل الهند (50،558 مليار) وفيتنام (16،12 مليار) وإندونيسيا (23،883مليار). وفي أحدث تصنيف للمنتدى الاقتصادي العالمي عام 2019، كان تصنيف الأردن السبعين عالميا، أي أفضل من البرازيل وجورجيا، واقل بتسع نقاط فقط عن تركيا (9،54 مليار). لا أقول إن باستطاعة الأردن أن يأتي باستثمارات بحجم هذه الدول الكبيرة، ولكن إن دلت هذه التصنيفات على شيء، فتدل على أنه وبالرغم من عدم كمالية بيئة الأعمال لدينا، إلا أن المعيقات التي تواجهنا تواجه دول أخرى لم تثنيها من استقطاب استثمارات كبيرة.

فاذا هنالك أي طموح لجلب نسبة، ولو بسيطة، من الاستثمارات المتداولة عالميا المذكورة سابقا، مما سيكون عامل أساسي لمكافحة البطالة وتحسين المناخ الاقتصادي، فأعتقد أن تغيير النهج الذي نتبعه بخصوص الاستثمار ستأتي بنتيجة. فالسؤال الذي سأله مقدم البرنامج يمثل التشويه السائد في الفكر الاستثماري ألا وهو أن القانون بحد ذاته سيأتي بالاستثمارات، وهذا لن يحدث. القانون قد يحسن من البيئة الاستثمارية، ولكن ما يحتاجه الأردن اليوم لتعظيم حجم الاستثمار هو الالتزام بتحسين الوضع القائم إداريا (مقالي الأخير بعنوان “خطة تحديث القطاع العام”) وهو الحل لمعظم التحديات التي تواجهنا، والثاني هو التسويق الحقيقي.

فقد نجح القطاع السياحي نجاحا باهرا في وضع الأردن على الخارطة السياحية العالمية بعد ما قام وبالشراكة مع الحكومة بتأسيس هيئة لتنشيط السياحة قبل نحو ثلاث وعشرين سنة. ومن أهم دلائل نجاح هذا المشروع هي الزيادة الكبيرة في حجم الاستثمارات في القطاع السياحي، من فنادق ومنتجعات ووسائط نقل ومدن ترفيهيه وغيرها، بالإضافة الى زيادة الرحلات الجوية الى الأردن من قبل شركات طيران جديدة، لتلبية زيادة الطلب على المنتج السياحي الأردني، مما ساهم بالحد من نسب البطالة. وقد التزمت الحكومات المتتالية بدعم هذا القطاع من خلال منح الهيئة الاستقلالية عن وزارة السياحة والآثار لتمكينها من أداء مهمتها بمهنية عالية، والتخصص في عملها، بالإضافة الى المساهمة في ميزانيتها بحجم يتناسب مع حجم الدخل المتأتي للدولة من هذا القطاع.

فأن عدم التزام الحكومات المتعاقبة في تسويق الإمكانيات الاستثمارية في الأردن واضح من خلال الموازنة التسويقية المتواضعة الممنوحة للتسويق في هيئة الاستثمار، حيث إنها لم تتجاوز 300 ألف دينار، أي تقريبا 1/20 من الميزانية التسويقية لقطاع السياحة، وفي بعض السنوات وصلت النسبة الى اقل من ذلك بكثير. وبحسب الدراسة الصادرة عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) حول هيئات الاستثمار في الوطن العربي، فأقل ميزانية مخصصة لتسويق الاستثمار هو الأردن الذي يبلغ 18% من موازنة هيئة الاستثمار، علما بأن متوسط ميزانيات الهيئات الشبيهة في الوطن العربي هي 8 مليون دولار، ومتوسط نسبة هذه الموازنات المخصص للتسويق هي 50%، أي نحو 4 مليون دولار (متوسط ميزانية التسويق في بلدان OECD هي 69 مليون دولار). فاذا كان هنالك أي نية واقعية لجلب الاستثمارات الى الأردن، فان إعادة تقييم عملية التسويق يجب أن تأخذ الأولوية. فالبيئة الاستثمارية جيدة على كافة المعايير الدولية التي وضعناها لقياسها، ولكننا اقل في جميع المعايير في التسويق. فالمستثمر لن يجدنا إذا لم نجده، ولكن سيجده مكان آخر، فسيذهب إليه.

فمتطلبات تسويق الفرص الاستثمارية لها خصوصية. فالتسويق الذكي، يعتمد على استهداف الشركات التي ستتمكن من زيادة أرباحها فيما لو اختارت بلد ما كموطن لها، مما يتطلب المعلومات الدقيقة عن الشركات market intelligence، ويتطلب تقنية عالية من التنظيم لإدارة واستخدام هذه المعلومات، ولا سيما الى التزام وتعاون فيما بين جهات عديدة. أعلم أن الأمر مكلف ماليا وإداريا، ويتطلب التزام كبير، ولكن العائد للدولة كبير. فالميزانية التسويقية الحالية لن تحقق هذه الغايات إطلاقا.

وهنالك أدوات مهمة لم يتم استغلالها للان. فقد أصبح العمل الدبلوماسي عالميا مقرون بالتجارة والاستثمار. ولذا، نجد أن نسبة كبيرة من عمل سفارات الدول المتفوقة اقتصاديا تتمحور حول القطاع الاقتصادي. أن الدور الذي يمكن أن تقوم به السفارات، والسفراء تحديدا، في زيادة حجم الاستثمارات الى الأردن، من خلال علاقة مؤسسية مع القطاعات المعنية الأردنية، لا يُثمّن. فللسفراء مكانة خاصة في الدول المعتمدين فيها، والأبواب مفتوحة أمامهم للقاء أصاحب القرار في أي مكان. كما يمثل السفير رأس الدولة، ويتحدث باسمه، مما يعطي الثقة اللازمة والمطلوبة للمستثمر. ولتأكيد أهمية هذا الجانب، فقد قامت الحكومة البريطانية مؤخرا بضم المؤسسة المعنية بالتجارة والاستثمار الى وزارة الخارجية البريطانية، وهنالك أمثلة عديدة أخرى لذلك في دول العالم. فقد يكون الوقت أصبح مناسبا لمراجعة وتفعيل مذكرة التفاهم التي وقعتها مؤسسة تشجيع الاستثمار مع وزارة الخارجية عام 2004 والتي بموجبها تمت مأسسة علاقة فيما بينهما كان من الممكن أن يُكتب لها النجاح في تعظيم الاستثمار الى الأردن. وقد جاء في غايات هذه المذكرة أن الطرفين عازمان “على تعزيز أواصر التعاون فيما بينهما من اجل تحقيق الاستفادة القصوى من الشبكة الدبلوماسية المنتشرة في أنحاء العالم والمتمثلة بالبعثات والسفارات والقنصليات الأردنية في الخارج وكوادرها لما من شأنه تحقيق المنفعة للاقتصاد الأردني وذلك من خلال ترويج الأردن كمركز جذب إقليمي للاستثمارات الأجنبية”. وقد جاء في بنود المذكرة تفصيلات حول التدريب والتنسيق.

سعيت في هذا الرأي أن أبين أن البيئة الاستثمارية في الأردن، وبالرغم من التحديات التي تواجهها، أفضل من دول عديدة أخرى نجحت باستقطاب أحجام كبيرة من الاستثمارات، وان هنالك أدوات متوفرة لم نقم للان باستغلالها. ليس لدي أدني شك بأن ظروف المنطقة المحيطة غير محفزة، ولكن علينا أن نلقي اللوم على الظروف بعد الانتهاء من استغلال كل فرصة وأداة متاحة لنا. فاذا التزمنا بعمليات تسويقية جادة اليوم، لن نرى نتائجه واقعيا قبل ثلاثة سنوات. فكل يوم تأخير لدينا، هنالك طرف آخر سيملأ الفراغ.

التعليقات مغلقة.