صحيفة الكترونية اردنية شاملة

حرق الشعوب على مذبح الهيمنة

0

يحيل الكثيرون الجحيم الذي تحترق فيه شعوب منطقتنا الآن إلى التقسيمة القديمة للشرق الأوسط “سايكس- بيكو”. يقولون إن الإمبرياليين البريطانيين والفرنسيين لم يراعوا في تقسيمهم تركة العثمانيين الخصوصيات الجيوسياسية والديمغرافية، فخلطوا الحابل بالنابل، وهو ما أفضى أخيراً إلى الاقتتال الأهلي الدموي الحالي بين العرب. لكن معظم هذا التحليل يعاود تأكيد فكرة التقسيم أيضاً، على أساس أن تلك القسمة كانت معيبة، ولذلك تجب الآن إعادة تقسيم العرب على أساس الهويات الفرعية؛ الطائفية والعرقية والقبلية. وفي حين يلاحظ نفس المحللين أن “سايكس-بيكو” لم تستمزج شعوب المنطقة، فإن إعادة التشكيل الجديدة -على الطريقة الأميركية- تتجاهل عواطف الشعوب بنفس المقدار، وسوف تسترشد بوضوح بالمبدأ الإمبريالي العبقري “فرق تَسُد”. ومثل المرة الأولى، سوف تخدم الأنظمة التابعة وعشاق السلطة الجدُد تكريس التقسيمة الجديدة، لفائدة القلة الجشعة في الداخل والخارج، وضد مصالح الشعوب وتقدمها أيضاً.

لم يطرح أحد من المتحكمين بأقدار المنطقة شيئاً من الأفكار المنطقية الممكنة لإخراج الشعوب العربية من محنتها: تطوير بيئتها الاقتصادية والمفاهيمية، على أساس إبراز المشترك وتعتيم المختلف. ولا يتحدث القائمون على مشروع التقسيم من الخارج ومساعدوهم المحليون عن تخفيف أسباب الانكفاء والعدوانية، بحثّ العرب الأثرياء على مساعدة جيرانهم الفقراء وتوسيع مناطق المصلحة المشتركة والتكامل الاقتصادي والتقدم، بحيث تنحسر الاتجاهات الانفصالية والمتطرفة التي تتغذى على الفقر والتخلف واللامساواة. ومع ذلك، وفيما ينطوي على كل مفارقة، يتحدثون عن التعالق الاقتصادي كطريقة للتقارب والسلام والاستقرار في حالة واحدة فقط: “إسرائيل”!

في خطة “الغاز الإسرائيلي” التي عملت عليها الإدارة الأميركية “بهدوء” وسط صخب المنطقة، يقول المسؤولون الأميركون إن “روابط الطاقة يمكن أن تعزز السلام الهش القائم بين إسرائيل وجيرانها”. وهم يقيمون مشروعهم على قانون طبيعي واقتصادي: الوفرة والعوز. لكنهم يوظفونه فيما هو غير طبيعي: تطبيع كيان الاحتلال الغريب بكل المقاييس عن المنطقة، عن طريق فرضه من فوق على الشعوب العربية المجاورة، بجعلها معتمدة عليه في شأن الطاقة الحيوي لمعاشها اليومي. ولا يشترط ذلك أن “يتنازل” الكيان عن عدوانيته الأصيلة تجاه الجوار، وعنصريته ووحشيته تجاه الشعب الفلسطيني، وازدرائه المعلن للسلام كفكرة أو تطبيق. كما يهدد الأميركيون الحريصون على “السلام” بهذا المعنى فقط، بإعاقة مجرد طرح مشروع الدولة الفلسطينية في الأمم المتحدة. كيف نفهم ذلك؟

يفكر المرء في المفارقة، وفي ذهنه حقيقة أن العرب هم أهل البترول والغاز. لكنّ الأميركيين المتحكمين بقرار الجميع، ووكلائهم، لم يعملوا -ولا يمكن أن يساعدوا فكرة “تطبيع” العلاقات بين العرب بمشروع تكاملي للنفط والغاز على أساس الوفرة والعوز، وحيث لا مشكلة أصيلة في تطبيع الشعوب. إنهم يدعمون فقط تخريب العرب بيت العرب، وبطريقة “التدخلات” الرسمية العربية المدمرة التي نشهدها في المناطق العربية التي تموت الآن. والطبيعي أن ترغب الشعوب العربية –عاطفياً ومصلحياً- في التكامل مع مواطنيها، وليس بالقطع مع الكيان الصهيوني. ولكن، مَن يحسب حساباً للشعوب؟

من غير المحتمل أن تكون الولايات المتحدة بصدد “ترتيب” المنطقة لغاية استقرارها ثم الخروج منها بسلام. وإذا فعلت ذات يوم، فعلى قاعدة “الأرض المحروقة”، بعد ضمان المزيد من تخلف المنطقة وتأبيد تبعيتها. ولو كانت ستخرج بحسن النية المستحيل، لتبنت على الأقل ما اقترحه والي نصر في مقالة حديثة له في “نيويورك تايمز”، من متابعة استراتيجية ذات أهداف “أبعد مدى بكثير، (والتي تقوم على) تقوية المؤسسات والحدود الوطنية، وإطفاء العداوات الإقليمية، واحتواء التطرف، بحيث لا تعود هناك حاجة إلى مزيد من التدخلات الأميركية”.

على مدى عقود، أفضت مثابرة الهيمنة الخارجية وعمل أدواتها المحلية إلى تجريد العربي من اليقين الذي يعنيه استقرار الهوية. وفي العقود الأخيرة، تكالب كل شيء لتهديم عنصري هوية شعوب المنطقة الحاسمين: العروبة والإسلام. لم تعد العروبة مصدر فخر للعربي بعد أن غام تعريفها ومعناها، وأصبح الانتماء إلى الحضارة الإسلامية يعني كون المرء مستهدفاً ومثالاً للإقصاء. وفي الرحلة اليائسة في الوجهة الخطأ، يتشبث الناس بالهويات الصغيرة التي تكرس التمزق والتفتيت، أو المشوهة على طريقة “داعش”. أما الذين يمتلكون إمكانية “التدخل”، فيحرقون الجميع على مذبح الهيمنة!

الغد

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.