صحيفة الكترونية اردنية شاملة

باحث عن الجغرافيا في الأرض المشاع

0

يبدو كل شيء تاريخاً بعيداً الآن. كثيرون من رجال تلك المرحلة، مضوا إلى ما سمّاه أرنست رينان في ابتهاله أمام معبد “الأكروبول”، “نهر النسيان”. قليلة هي شواهد الطريق التي يبقيها التاريخ فيما يجرف ما في طريقه، كالنيل، أو يغمر معالم الطريق بالطَمي. مثل النيل أيضاً. مَن يُدمن قراءة التاريخ يتعوّد الخوف من الجغرافيا.

نعرف، أن لا علاقة لنا بالتاريخ، لا كُتّاباً ولا قرّاء. مُحرج تاريخ الدول الصغيرة. ولذلك، يقوم على حالتين تزويريتين: إما النكران واما التلطيف. وأي تاريخ، في أي حال، لبلد صغير ورقعة صغيرة وشعوب كثيرة، شاء قدَرَها أن تقع على تقاطع العالم القديم، فلما حلَّ العالم الجديد، وقعنا في جَرْفه وتحت طَمْيه. صور، التي عَصت على الاسكندر لإنها جزيرة، أفاقت ذات يوم فرأت الطمي الآتي من النيل جرَّدها من الحماية البحرية وجعلها لسان البَرّ. مسكينة الدول التي تاريخها ضعيف وجغرافيتها مُشتهاة. ويتفاقم الوضع إذا أضَفت إلى العطوبتين، شعباً لم يتعلّم منهما سوى أن يكون بلا قيَم أو خصائل. يسلّم التاريخ ويبيع الجغرافيا.
يهدف كتاب “ياسر عرفات وجنون الجغرافيا”(1) إلى رسم صورة مكبَّرة لأشهَر زعيم فلسطيني. كان المؤلف على بُعد خطوة منه منذ 1976 الى حين وفاته في مستشفى وزارة الدفاع الفرنسية “فال دو غراس”. بدأ العمل معه مديراً للإذاعة الفلسطينية، يأخذ منه التوجيهات السياسية. ثم عمل وزيراً في السلطة. يختلف كتاب نبيل عمرو عن كل المؤلفات الأجنبية والعربية والمذكرات الشخصية التي وضعها أصحابها عن “أبو عمّار”، أو “الختيار”، أو “قائد الثورة”. لسنا هنا أمام لاعب سياسي أو منافس، ولا أيضاً أمام متولِّه قرر أن يسير خلف الزعيم باعتباره إلهاً. لقد أعطاه الولاء الكامل في عمله ونفَّذ أوامره دون اعتراض، ومشى خلفه أو إلى جانبه، فيما كان أهالي بيروت يفرّون لدى رؤيته خوفاً من أن تنفجر الأرض من تحته وتحتهم خلال لحظات.
لا يدَّعي نبيل عمرو دوراً سياسياً، لكنه شاهد دائم على مرحلة 12 عاماً امضاها أبو عمار في بيروت. أردت أن أعرض لكتابه، على رغم مرور عام وطبعتين، لأنه أكثر مؤرّخيه عفوية في توصيف المرحلة من الداخل. ولأن خلاصة تلك المرحلة فريقان: رجل كان يبحث عن قاعدة له في أي مكان مجاور لفلسطين (ولاحقاً في اليمن)، وشعب مفتّت عرض عليه الأرض والسيادة والقرار، ثم انشرح وهو يراه مغادراً إلى أثينا.
كان أبو عمار قد بدأ البحث عن موقع جغرافي في الأردن: “حاول دون فائدة تبديد مخاوف الملك (حسين) الذكي بأمور ذات قداسة معنوية، كشعار شعب واحد لا شعبين، ودم واحد في العرقين، وإظهار الاستعداد الدائم للدخول في اتحاد كونفدرالي مع المملكة الهاشمية. غير أن هذه الطروحات والشعارات جميعاً لم تكن لتُقرأ من جانب الملك المحنَّك بما يرغب فيه عرفات. كان الملك يقرأ على الدوام هذه الأطروحات على أنها حيثيات دعائية لتحقيق هدف سياسي بالغ الخطورة، ربما يفضي إلى القضاء على الأردن بما هو كيان، وعلى العرش الهاشمي بما هو نظام”.
حمل عرفات نفسه ورجاله وآلامه وطموحاته وبندقيته وأمواله وجاء يجرِّب المحاولة في مدينة يسميها نبيل عمرو “عاصمة الإغواء في الشرق الأوسط”. “لقد ملأ لبنان ليس فقط بالمشافي والمدارس، بل أيضاً بجيش من المؤلَّفة قلوبهم من محدودي الدخل. أوجَد فرص عمل ووضع الألوف على كشوف دوائر ومؤسسات أو مسمّيات إمبراطوريته. كل مَن يموت هو شهيد التحالف، وكل مَن هو على قيد الحياة هو عضو بديهي في حزب عرفات. قرأ الموزاييك اللبناني واعتمد على أصدقاء أذكياء في فكّ ما يُعصى عليه من رموز المعادلة اللبنانية”.
لم يكن عرفات قادراً على التحكم الكامل بالفصائل الأخرى “لأن ولاءها كان للمخابرات التي تعمل من أجلها”. وكان يخشى أن تعمَّ الفوضى كما عمَّت في الأردن، إذ أزعجه وأقلقه خطف الطائرات وحرقها أمام أنظار عالم غربي كان هو يبحث لديه عن التعاطف والتأييد.
مع الأيام “لم يعد أحد في وارد تصديق الشعار التبسيطي للوجود الفلسطيني في لبنان، أي الممر لا المستقر. فها هو الممر يتسع، بل يتخذ شكلاً أخطبوطياً تمتد أذرعته لتصل إلى كل مكان في لبنان. تسلَّق مقاتلو عرفات قمم الجبال. إن الذي صعد بمقاتلي عرفات إلى عينطورة وعيون السيمان هو ذلك الوهم الساذج عندما صدَّق اليسار الفلسطيني أوهامه حول دوره في صراع نفوذ الكبار”.
بدأت النكسة الأولى لإمبراطورية أبو عمار في تل الزعتر (الكلام، دائماً، عرض لما جاء في الكتاب)، ومعها بدأ تخبُّطه السياسي. فقد وجد نفسه في الدامور يعرض على مهجَّري تل الزعتر المال والمساعدات للتوطُّن هناك: “يا إخوان مين فيكو كان صاحب بقالة في تل الزعتر؟ مين كان حلاّق؟ تبدأون العمل من اليوم”.
اقتربت ساعة الرحيل: “إن القوى التي التقت مصالحها على إخراجه بلغت من القدرة حداً جعل بقاءه كما هو أمراً مستحيلاً. فلقد تصاعدت لغة إسرائيل التهديدية، وتعاظم الحضور العسكري السوري الفعّال في لبنان، أما حلفاؤه، فقد باتوا يتعاملون معه بحذر، إذ صار وجوده المبالَغ فيه عبئاً عليهم، وبخاصة أنه يشاركهم حصص طوائفهم بعد أن كان حامي هذه الحصص”.
“… لم يُفصح عرفات عن أنه لاحظ على مدى الأيام القليلة الماضية، تململاً جماعياً من أهل بيروت الغربية للرحيل عن المدينة. كان كلما ظهر في شارع، خلا الشارع فوراً من المارة، وكلما عُرف أنه يقوم بزيارة لأحد المقرّات، هرْوَل من تبقّى من سكان البناية مغادرين إلى أي مكان. كانت بيروت الشعبية، هذه التي تحمّلته سنوات طويلة، قد ضاقت ذرعاً بمعركة الصمود وقائدها وبطء الحركة نحو إنهاء محنتها، وليس سوى رحيل عرفات ورجاله ما يُنهي هذه المحنة. وحين صار الهروب الجماعي عملاً روتينياً لمجرد رؤيته، شرَع يفكّر في الرحيل. لقد أصبح هو نفسه مثار رعب”.
أبلغ السفير السوفياتي، سولداتوف، عرفات أن الوضع لم يعد يُحتمل وعليه أن يرحل في أقرب وقت. أغضبه ذلك وقال لرفاقه “لن أعود لزيارة الرفيق سولداتوف. كم تمنّيت لو أن بيروت مدينة فلسطينية لما كنت غادرتها أبداً”. لكن بيروت كانت قد أصبحت مدينة ترتعد كلما رأته داخلاً إلى مبنى أو خارجاً منه. “وكان عرفات يشعر بالخجل من اضطراره لاصطناع أنشطة سببها الأول والأخير الإفلات من القتل”، بل إن أحد روّاد الملاجئ خاطبه عندما شاهده بالقول “حرام والله. ورانا ورانا”.
بعد عمّان خسر أبو عمار موقعاً جغرافياً آخر في بيروت. وراحت تخطر له أفكار غريبة: الذهاب إلى طرابلس. أو توسيع جزيرة الأرانب كقاعدة عسكرية. واستفسر بكل جدّية عن امكان إقامة مطار في جبل تربُل. وثمّة من اقترح عليه قاعدة في جزيرة كمران اليمنية، عند صديقه علي عبدالله صالح. وقيل له، لكن لا ماء في الجزيرة، فقرر إقامة مصنع تحلية، واشترى واحداً مستعملاً من ألمانيا. وفي مكان تبلغ حرارته 50 درجة، أعطى المصنع ليتراً واحداً في اليوم، وفرّ المهندس الذي يديره عائداً من حيث أتى.
لم يتوقف أبو عمار عن البحث عن الجغرافيا وعن الدولة وعن فرقة موسيقية تعزف القِرَب وتؤدّي له التحية. لم يتبقَّ له، في النهاية، سوى تونس وطائرته تنتقل به في أجواء العالم، الكثير الأعداء والخصوم، القليل الصداقات.
ما لا يقوله لنا نبيل عمرو، هو أن أوسلو كانت آخر جغرافيا عُرضت عليه، فتلقّفها. أراد وسادة ليست معلّقة بين الأرض والسماء. وقد بدا في العامين الأخيرين، رجلاً وحيداً يجلس ببذلته العسكرية أمام دار “المقاطعة”، التي لم تترك له دبابات شارون منها سوى غرفة النوم وغرفة السُفرة. وإلى غرفة الطعام كانت بعض الأمهات يرسلن إليه الطعام الفلسطيني.
وظلّ يسأل عن أصدقائه هنا ويتفقّدهم. سيدة في حاجة إلى عملية جراحية، أو صديق قديم تزوّج حفيده. وكان يمضي الكثير من الوقت في مشاهدة برامج LBC ليسمع ماذا يقول عنه اليوم أولئك الذين يصطفّون بالطابور أمام مكتبه في الفاكهاني. لم يعد من المسموح ذكر اسمه. وعندما قرر أن يُخاطب القمّة العربية في بيروت، من طريق الأقمار الصناعية، حدث عُطل مفاجئ جداً في محطة تعنايل.
تلك كانت حكاية الوصاية الأولى في لبنان. ولم تدُم طويلاً. يكتفي نبيل عمرو برواية الجانب الفلسطيني من المرحلة، مبتعداً عن الدور اللبناني، لكنه يقول ان كل شيء بدا كأنه سيدوم، وعلامة ذلك زواج أبو علي حسن سلامة، رجل الأمن الفلسطيني، من جورجينا رزق، ملكة جمال لبنان – ومنه ملكة جمال الكون. ترك عرفات خَلْفه شعار “ممر لا مستقر”، وبدأت دورة الشعارات الأخرى.

النهار

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.