صحيفة الكترونية اردنية شاملة

ضد الكرامة والسمعة والاقتصاد

0

يكافح الطبيب لنحو ربع قرن، بين صفحات الكتب وأروقة المختبرات؛ في رحلة تنتقل من مقاعد الدراسة إلى الاختصاص وما بعده. لكن المفاجأة قد تقوده إلى لحظة عنف مجنونة، تكون فيها حياته في مهب الريح، كما يستطيع شخص منفلت من الخلق والقانون، ترك جراح في رأس الطبيب وجسده، مع ندوب في النفس تتصل بسؤال الكرامة لكل الأطباء من حولنا.
لقد نجح الطبيب الأردني، ومثله المعلم، على امتداد العقود الماضية، في تحقيق سمعة كبيرة في الأوساط الطبية والتعليمية على المستويين الإقليمي والعربي. وشكلت هذه السمعة ركيزة في الاقتصاد. لكن هذا الإنجاز يُقابل اليوم بالنكران من البعض، بل وبالجريمة من قبل من لا يقوى على ضبط انفعالاته. إذ سرعان ما يتحول جدل مع طبيب في غرفة الطوارئ في مستشفى حكومي إلى شتم وضرب من طرف أقارب أحد المرضى، لينتهي الأمر إلى وضع كارثي يلحق بالطبيب، وسط تفشي جرائم الاعتداء هذه، وضعف الرادع المجتمعي والقانوني والأخلاقي في أوساط مرتكبيها.
حتى وقت قريب، كان توصيف “المشاجرة” هو عنوان هذه الجريمة. لكنها في حقيقتها وأثرها أكبر من ذلك بكثير. ويسجل للادعاء العام، خلال الأشهر الماضية، سرعة تحركه في حال حدث مساس بأي طبيب. لكن المشكلة ليست في تحقيقات المدعي العام وتكييف الجريمة، وإنما في تواطؤ المجتمع مع المجرم. إذ تتحرك على الفور جاهات وعطوات ومحاولات التفافية، يتم بموجبها عدم معاقبة الجاني، لتطوى القضية بتسوية لا تعطي حقا ولا تردع معتديا، وليظهر بعدها اعتداء آخر في مستشفى آخر، وهكذا.
نعم، إنها جريمة تحولت إلى ظاهرة، ندفع ثمنها جميعا من سمعتنا واقتصادنا، ومن كرامة أبنائنا الأطباء الذين هم ذخيرة الدولة وإحدى روافعها الحقيقية. فمنذ بداية العام الحالي، رصد الأمن نحو 14 حالة اعتداء على الأطباء. والرقم خطير أيضا في العام الماضي، إذ تخطى 83 حالة اعتداء. والقصة برمتها خسارة في خسارة، تكشف تراجع هيبة الدولة، وغياب سيادة القانون، وتواطؤ المجتمع. وبالمناسبة، تتفشى هذه الجريمة لدينا ولا يوجد ما يماثلها عددا ونوعا في المنطقة العربية، أو حتى في العالم؛ فهي غدت ظاهرة أردنية بامتياز، تنمو في أجواء العنف التي تشهد رقعتها اتساعا كبيرا.
الطبيب الذي يرى أكثر من مئة مريض ومريضة في اليوم الواحد، ويشكو -كما المرضى- من اكتظاظ المستشفيات العامة، ويحاول جاهدا أن يقدم خلاصة خبرته ووعيه لخدمة جمهور عريض، علينا أن نحافظ عليه وندعمه، لا أن نعتدي عليه ونهينه.
مهنة الطب مقدسة. والأيدي التي تمتد إلى الأطباء لضربهم، يجب أن تجد من يقف أمامها وينهي هذه الاعتداءات؛ بل يجب أن ننهي كل هذا العنف الأعمى من حولنا، الذي لا يصلح معه حديث عن الاقتصاد والإنجاز وكرامة العاملين في المهن.
الغد

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.