صحيفة الكترونية اردنية شاملة

عام 2005 قبل فيسبوك

0

كما تختفي دولة تأخّرَت عن مواسم أعياد الاستقلال، وتنهارُ إمبراطورية دخلت مبكراً في عقدها الثاني عصر الورق، وينفدُ العمرُ الافتراضيُّ لقارة انتهت بقعة داكنة على الخريطة الطبيعية؛ كما يموتُ الحبُّ الذي لم يدوِّنه الغناءُ الشعبيُّ، والشعرُ الذي لم تحفظه ذاكرة النساء، والعمرُ الذي انتهى قبل حُسْن الختام، كما يذوبُ الثلجُ، ويجفُّ المطرُ، ويبردُ العطر، أثبتَ تقريرٌ صحفي موثوقٌ أنَّ “فيسبوك” سيختفي بعد عامين؛ هكذا مثل دولة أو امبراطورية أو قارة انتهت بقعة زرقاء على خارطة طبيعية في المتحف!

سيستكْمِلُ الصبيةُ، بعد عامين، نموَّهم الطبيعيَّ، بعد أنْ اسبتدلوا ألعاب الأتاري الصاخبة، بلعبة الشِّعر “البسيط”: أسطر قليلة متباعدة لا يشترط أنْ تتشابه من وراء القصد، زجاجة كحول نصف فارغة ونصف ممتلئة حسب الانزياح الشعري، شتائم مقلَّدة من شعراء النثر في الجيل الأدبيِّ السابق، فتاة متخيَّلة على هيئة “شاكيرا” الغجريَّة، بينما هي في الواقع سمراء نحيلة مصابة بالأنيميا، وسيعودُ الناضجون منهم لـ “الخربشة” على جدران مدارس البنات المهنيَّة، عند سور التدبير المنزليِّ، قبل أن يصبحوا أزواجا طاهرين حتى مساء الخميس!

عشرة أعوامٍ تغيَّرَت فيها ملامحُ النساء؛ صرنَ جميلاتٍ أكثر مما يشتهي الرجالُ، ولم يكن الأمرُ سهلاً، فبعدَ تعديلات الجرَّاح الجذرية، ولمسات المزيِّن الملموسة، وتوجيهات المصوِّر الخبيرة، تدخلُ الصورة إلى البرنامج السحريِّ “فوتوشوب”، لتخرج منه إلى غلاف صفحتها الزرقاء “امرأة لم يُخلق مثلها في البلاد”، والتي تحاولُ عبثاً أنْ “تجمِّعَ” صورة تقريبية لها، تضَعُ صورةً لـ “جنيفر لوبيز”، لتوهمكَ أو توهِمَني بأنَّها واحدة من الأربعين اللواتي يشتركنَ مع المغنية الأميركية بالشبه و”الخلق الحسن”. لا امرأة قبيحة في هذا العالم الأزرق، ما تطلَّب إلغاء الوصافة من مسابقات الجَمال!

الناسُ الذين في الدولة الزرقاء، وفي الإمبراطورية التي كانت الشمسُ تخجلُ من الغياب عنها، هم سكَّانُ القارة التي اكتشفَها “مارك زوكنبرغ” دون المرور بـ “الهند”، هم الذين ما عادوا يطيقون أسماءهم الخفيفة، حين كانت من مقطعين وكُنية مبتورة، مجرَّدة من النياشين اللغويَّة: “الشاعرة الحالية المهندسة سابقاً”، “المحامي قبل الظهر، المسرحيُّ بعد التاسعة والربع مساء”، “الأديبُ، العالمُ، الفيلسوفُ، المدقِّقُ اللغويُّ”، “الكاتب المعروف، السياسيُّ المخضرم، وتاجر الأدوات المنزلية”، “القاصة المبدعة، العازفة الماهرة، مصففة الشَّعر المعقَّد”. عشرة أعوام والناسُ في الدولة، والإمبراطورية، كأنَّها هاجرت إلى قارة جديدة، الأسامي فيها ليست بـ “العينين”!

سيعودُ الناسُ بعد عامين إلى “الزمن الجميل”، إلى العام 2005 قبل فيسبوك، عندما كانوا بسطاء، يلتقطون الصور العفوية دون الاضطرار إلى مدِّ الشفتين كالمجاذيب المستجدين، بالتزامن مع تنكيس علامة النصر إلى جوار الخصر، وعندما كان الطعام يوضع على المائدة ساخناً، دون الاضطرار للانتظار الطويل حتى خضوعه لمرحلة الوقوف بابتسام على مضض على رفوف المطبخ الأميركي التي أعد خصيصاً للتصوير الفيسبوكي. كانت الناس قبل العام 2005 من ميلاد فيسبوك بسيطة كالفرح الذي يُباغتُ دمعة، مكابرة كالدمع الذي لا يستجدي البكاء!

ستسقطُ بعد عامين دولة فيسبوك من الداخل، يقولُ التقريرُ الموثوقُ إنَّ كذا نسبة من المائة من سكانها يفكرون الآن بالهجرة الداخلية من “الهوم بيج”، وبعضهم بدأ فعلياً بالوقوف المهين في طوابير التأشيرات إلى افتراضٍ آخر، وآخرونَ يخططون بمكرٍ لهجرات غير شرعية عبر ماء غير أزرق، وستنهارُ الإمبراطورية الزرقاء، يُقالُ أيضاً إنَّ الشمسَ ستندَمِجُ في “المؤامرة الكونية”، وتقنِّنُ شروقها حتى تغيبَ تماماً في ليلٍ لا “ليلى” له، وستختفي القارة الثامنة من خطوط الطول والعرض، ويقتصر ذكرها على سيرة ذاتية لطالب أميركي فشل في أن يكونَ “كولمبوس”، ويكرِّر حكاية “الهند” القديمة.

سيعودُ الناس، بعد عامين، إلى بلادهم سالمين. أما أنا فسأبقى هُنا في الدولة الافتراضية؛ فلو كان لي في الأصل وطنٌ، لما سكنتُ “فيسبوك”!

[email protected]

@naderrantisi2

الغد

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.