صحيفة الكترونية اردنية شاملة

متى يسّلُكُ الاقتصادُ الأردنيُ طريقَ التعافي؟

0

سؤالٌ مُلح لا ينفكُ يُهيمنُ ويخّيمُ على حديثِ الشارعِ الأردني، فَهَلْ إِلَىٰ خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ مِن عُنقِ زجاجةٍ تخنُقُ وتُكبِّلُ اقتصادَ المملكةِ وتتسببُ بشلَلِ وفشَلِ القطاعاتِ الخدميةِ والإنتاجيةِ وتحولُ دونَ تمكُنِّها مِن خلقِ فرصِ عملٍ جديدةٍ كفيلةٍ بدرءِ استمرارِ مُسلسلِ تفاقم نسبِ البطالةِ؟، وهي الظاهرةُ التي كانَ لها ولسِواها الأثرُ البالغُ في نشوءِ ونشوبِ واستشراءِ مظاهرٍ اجتماعيةٍ مُستغربةٍ لم تعهَدها البلادُ منذ نشأتَها.
ويندرجُ الأردنُ ضِمنَ خانةِ الاقتصاداتِ التي لا يُسلّمُ بالقدرةِ المُطلقةِ على تحليلِ مُؤشراتِها واستشرافِ آفاقها، نظراً لتعدّدِ و تلاحُقِ المُتغيرات الجيوسياسيةِ المحيطةِ والتي تُلقي بِظِلالَها عليه، تِلكَ التقلباتِ غيرِ المحسوبةِ قد تُحدِثُ علامةً فارقةً في مسارِ اقتصادٍ يتم مُباغتته حيناً بعواملٍ إقليميةٍ إيجابيةٍ تُحيلهُ مِحجّاً لبعضِ مستثمري المنطِقةِ، على أنهُ أيضا ما فتئ يُصدَمُ في أحايينَ كثيرةٍ غيرِها مُنكشِفاً على رياحٍ معاكسةٍ تُحاكي تحوّلٍ يشهدهُ محيطهُ تارة تلو أخرى، ليجدَ نفسَه مُكرهاً للتكيّفِ معَ تداعياتها، حتى ولو شقَ الأمرُ عليهُ مُجاوزاً حدودَ طاقتهِ ومُقدّراتهِ واستيعابهِ.
اقتصادُ المملكةِ ليسَ كنظيرهِ الألمانيِ أو حتّى المغربي، حيثُ يَصعُب حَصرُ التكهناتِ إزاءه مُقارنة بهما، إذ تُعلمُ الكيفيةِ التي يُتوقع فيها مسار الأمورِ في برلين، وهي عاصمةِ الدولةِ الصناعيةِ الرائدةِ التي تغزو مُنتجاتُها العالمَ ولا تجدُ في نفسِها حرجاً في مواظبةِ تنميةِ التدفقاتِ النقديةِ الإيجابيةِ الواردةِ إليها مِن كلِ صوبٍ وحدبٍ، كما أنّ الصورةَ المبدئية أمامَ راسِم السياستين النقديةِ والماليةِ في الرَباط ستكون أكثر جلاءً مقارنةً بنظيرهِ في عمّان وذلك حين يهُمُ بوضعِ الخطوطِ العريضةِ والدقيقةِ لهما، إذ أنه غيرَ مُضطرٌ للإمعانِ في التفكيرِ بشأنِ احتمالِ اشتعالِ الجغرافيةِ التي تُحيطُ ببلادهِ كالسوارِ بالمِعصم، كما هو شأنُ ذلكَ القائمُ على تأديةِ تِلك المهمةِ في الأردنِ.
فيما يرزحُ غالبيةُ الأردنيين -في هذهِ اللحظاتِ الدقيقةِ من مسارِ اقتصادِ بلادِهم- تحتَ وطأةِ اشتدادِ مصاعبِ المعيشةِ وغلاءِ تكاليفها وغيابِ فرصِ العملِ الكفيلة بتلبيةِ الحدِ المعقولِ والمقبولِ مِن متطلباتهم، يستشعرُ مُعظمُ أولئك بأن ثمّةَ انعدامٍ لضوءٍ قد تلوحُ بعض معالمهِ في نهايةِ النفقِ المظلمِ، الذي تسببت كوابيسهُ في تعطِّلِ دورةِ حياتِهم الطبيعيةِ، إذ لم يعُد بمقدورِ خريج الجامعةِ أو المعهدِ، الحصولَ على فرصةٍ للمساهمةِ بسوقِ العملِ المتداعي، بعد أن بذلَ أبواهُ ما يملُكانِ مِن مالٍ وصبرٍ لإيصاله لمرحلةٍ يَجدُرُ أن يكونَ فيها نائياً بنفسهِ عن الاحتياجِ إليهما، ذلكَ التعطّلُ حاصَرَ أيضا طموحَ شابٍة أو شابٍ متشوقٍ و متشوفٍ لبناءِ أسرةٍ بعدما فرَغ من مرحلة التعلّم، ومن ثم تمكّن من العثورِ على عملٍ لا يكادُ عائدهُ يسُد رمَقَ أبسطِ مُتطلباته، مُقعداً إياهُ عن التأهّلَ لخوضِ غمارِ تجربةِ بناءِ مؤسسةٍ اجتماعيةٍ ناشئةٍ، في عهد تفشّت فيهِ نِسبُ العنوسةِ من جهةٍ والعزوفِ عن الزواجِ من ناحيةٍ أخرى.
مظاهرٌ اجتماعيةٌ مُستجَدّة مُشتبكةٌ مع أخرى اقتصادية تسببت الأبعادُ الأمنيةُ والعسكرية و السياسيةُ الإقليميةُ في إعادة رسمِها خلال السنوات التي أعقبت بداية العقد الراهن، في مشهدٍ يكادُ يجترُّ المعالمَ ويُخالفُ اِلتداعياتِ التي عاشتها المملكةُ وأبناءها في الحِقبة التي تلت احتلالَ العراقِ عام 2003، وهو الحادثُ الجللُ الذي كانَ بمثابةِ بدايةِ الشررِ الذي تسبب بنيرانُه في انهاكِ الاقتصادِ الوطني، بل إنّهُ كانَ أيضاً التوطئةِ المُقدمةِ التي أفضت فيما بعد للعبثِ بمقدراتِ المنطقةِ العربيةِ بِرمَتِها، حيث تبعها معاناةٌ أكثرَ شموليةً مكّنت مِن وقوعِ الاقتصادِ الأردنيِ المُحاصر في شَرَكِ التهاوي.
تلك الصورةُ غير الوضّاءة التي أسلفتُ بِتقديمها، قد تدفعُ البعض للسأمِ من تِكرار وإعادةِ طرحها، إذ أنها ملموسة مُعاشة بتفاصيلها في واقعٍ كل منّا، يستشعر ألمها، الموظفُ الحكوميُ ونظيرهُ في القطاعِ الخاصِ، فحالَهُما أيضاً لا يختلفُ كثيراً عن ذلكَ التاجرِ العاجزِ عن تصريفِ مقتنياتِ متجرهِ الواقعِ بدورهِ في دوامةِ الركودِ الناشئِ عن ضعف مدخرات روادهِ، الأمرُ الذي يتسببُ بعجزهِ عن الوفاءِ بالتزاماتهِ بما يدفعهُ مُكرها لإيصادِ بابِ رزقهِ أو الهروبِ من دوامةِ مُطاردةِ دائنيه.
وكما بلغتِ البلادُ منحنىً هبوطياً -طال أمده أو قصُرَ- في الفترة التي أعقبت فقدان الدينار زُهاءَ نِصفَ قيمتهِ عام 1989، فقد شهدتِ خلال السنواتُ التاليةُ مُنعرجاتٍ أخرى أفضت إلى ولادةِ انتعاشٍ وركودٍ ظلّا مرتبطين بواقعِ الإقليمِ وتشوهِ القراراتِ والاجتهاداتِ الرسميةِ المحليةِ أكثرَ من التصاقهما بقاعدةِ تحرُّكِ الدورةِ الاقتصاديةِ التي تُعايشها نظيراتِها البعيدةِ عن موائلِ ومعاقلِ الصراعاتِ التي ابتليت بها منطِقةُ الشرقِ الأوسطِ مُتفردةٌ فيها عمنّ سِواها.
على أن بعضَ المتغيراتِ المحليةِ والإقليميةِ والدوليةِ، قد تقودُنا إلى استشعارِ دنوِ أجلِ عبورِ الاقتصادِ الأردنيِ بوابةِ مرحلةَ التحسنِ التدريجي ليُبدد من تلكِ الصورةِ القاتمةِ التي جاء وصفها في ثنايا السطورُ المُتقدمة، إذ أن ذلك المنعرج المرتقب بحلول نهاية العام الحالي، سيكونُ كفيلاً بـ”التغبير على وجهِ حقبةٍ رديئة”، خاضَ المواطنونَ خلالَها مُختلفَ أشكالِ التقشفِ التي أسفرت عن زيادة قُدرتهم على التعاطي مع واقِعهم بصورةٍ أكثرَ كفاءةٍ و فاعليةٍ، ومن ذلك قبولَ بعضِهم خوض غمار امتهانَ الحِرفِ التي كان كثيراً منهم يربأ بنفسهِ عنها أملاً في نيل وظيفة مكتبية، في تشبيهٍ لمقولةِ الإغريقي أرخميدس “الخبرةُ ليست هيِ ما يحدثُ للإنسانِ بل ما يفعلَه الانسانُ بما يحدُث لهُ”.
و لنَكُن أكثر تحديداً وواقعيةً في بناءِ التوقعاتِ حيالَ قدرةِ الاقتصادِ الأردنيِ على تلمُّسِ طريق التحسّنِ الذي أظنّهُ سيلوحُ قبيلَ حلولِ نهايةِ العامِ الحالي، فإنّ علينا إخضاعَ تلكَ الترجيحاتِ لآليةِ التقييمِ الشاملةِ (SWOT) والتي تعني اختصاراً، إفراد عناصر القوى والضعفِ والفرصِ والتحدياتِ الماثلةِ أمامهُ في المرحلةِ التاليةِ، بادئين إياها تدرجاً بالأبعادِ السلبية، وصولاً لتِلك المتفائلة.
* مظاهر التحدياتِ وعناصر الضّعف:
أولاً: يُعاني الأردنُ من جرّاء تداعياتِ الأزمةِ السوريةِ التي أفضت إلى استقبالهِ أعداداً هائلةً من الأشقاءِ الذين وجدوا في عمّان وبقيةَ مُدن المملكة ملاذاً آمناً يقيهم بطشَ النظامِ الأسدي، هذا الشأن ما انفك يظل الأكثر سخونةً في ارهاصاته وآثاره، إذ تسببَ في حصولِ ضغطٍ غير مسبوقٍ على المرافِقِ ومستوى الخدمات ناهيكَ عن تلك المواردِ الشحيحةِ أساساً، وتزامن ذلك مع تدفقِ أعدادٍ غير مألوفةٍ من مواطني الدول العربيةِ الأخرى بحثاً عن الأمن أو العمل، ما أحدثَ تغيرات ديمغرافية هائلة ومتسارعة، لا يشعُر بمِقدارها أكثرَ من شخصٍ غابَ عن قريةِ صويلح ليس بردحٍ من الزمان ليعودَ اليها وإذ تحوّلت هويتها وضجيج يومها إلى أشبهَ بتلك التي تتراءى لمرتادي نواحي مكسيكو سيتي.
ثانياً : ساهمَت الأزمةُ السوريةُ في قطعِ طرقِ التجارةِ البريةِ المُمتدة من أوروبا وتركيا وصولاً لدول مجلس التعاون الخليجي، الأمرُ الذي وجّه ضَربةً قاصمةً لنشاطِات النقلِ والخدماتِ اللوجستيةِ الأردنية، التي كان يُعتَمد عليها كرافدٍ مهمٍ لتغذيةِ إيراداتِ الخزينة، إلى جانب كونها منبعاً لفرصِ العملِ المتعددةِ والمتداخلةِ، وهو أمرٌ تظهر آثاره جلياً إن سألت صاحب متجرٍ في الرمثا أو القطرانة أو أن لججتَ في تكرار الاستفسارِ مع مالكِ أو قائدِ شاحنةٍ يقطُنُ إربد أو معان.
ثالثاً: فقدَ المُصدِّرُ الأردنيُ قدرتهُ على الوصول للسوقِ السوريةِ التي كانت تعتمدُ على منتجهِ الغوري الشتويِ تحديداً ضمن إطار الرزنامة الزراعية، كما راهنت على تِلك السوق -طيلة سنوات مضت- مصانعُ الأدويةِ والأجهزةِ الإلكترونيةِ والكهربائيةِ وسِواهما، وهي مؤسساتٌ لم تكتفِ بالحفاظِ على موظفيها وتعزيزهم بأقرانِهم، إنما اضطرت للتخلي عن نفرٍ منهم نتيجة تعذّرِ تصريفِ منتجاتها.
رابعاً: تواصُل مسلسلِ اغلاقِ الحدودِ العراقيةِ، بما يحولُ دونَ بلوغِ المنتَجِ الأردنيِ إلى السوقِ التي تُعد رئتهُ التي تنفّس منها تاريخياً، ولعلَ هذا ما يتصدّر قائمة الشؤون التي تقض مضاجعَ أصحابَ المصانعِ ممن يجدونَ ضآلة فرصةِ ترويج سلعهم ضمنَ حدودِ سوقِ المملكةِ، أو ممن ذاقوا من طعم حلاوةِ المكتسباتِ طوالَ الفترةِ التي سبَقت الاحتلال الأميركي للدولة العربية الشقيقة في عام 2003، حين كانت عمّان منصّةً عالميةً وإقليميةً للنفاذ للسوق العراقية عبر بوابةِ تنفيذ مذكرة النفط مقابل الغذاء المعتمدة أممياً ، أو عبرَ البروتوكولِ التجاريِ الموقع بين البلدين والذي حصلت بموجبه المملكةُ على النفطِ بأسعارٍ تفضيليةٍ مقابلَ السلعِ التي كانت تُقدمها مؤسساتُ القطاعِ الخاصِ لبغداد حينذاك.
خامساً: تعذّرِ بلوغِ السوقين السوريةِ والعراقية، تسببَ بإضعافِ قدراتِ القطاعِ الخاصِ الذي لم يعُد باستطاعتهِ خلقَ فرصَ العملِ، الأمر الذي أسهم في وصولِ معدلاتِ البطالةِ إلى نحو 16% من مُجملِ القوى العاملة، بحسب تقديراتِ دائرةِ الإحصاءاتِ العامّة، على أن الأوساطَ المستقلةَ تراها قُرابة ضِعف ذلك المِقدار.
سادساً: انتهاء أجل المِنحِ والمعوناتِ التي تعهدَت بِتقديمها دول مجلسِ التعاونِ الخليجي للمملكة منذ عام 2011 والبالغة قرابة 5 مليارات دولارات، والتي تقررَ دفعها لعمّان على مدار خمس سنوات، إذ كانت تلك المبالغُ تُغطي قدراً مهماً من عجزِ الموازنةِ الأردنيةِ المُزمن، غير إن توقفها سيُسفر عن تكوينِ مزيدٍ من المصاعبِ الماليةِ التي يدفعُ المواطنُ ثمنَها على هيئةِ رسومِ وضرائب مُبتكرة.
سابعاً: استمرارُ أسعار النفطِ العالميةِ عِند مستوياتٍ منخفضةٍ نسبيا (55 دولاراً)، يُصعّب من مهمةِ حصولِ الأردنِ على مساعداتٍ خليجيةٍ لاحقة، إذ أن الثمنَ المُشار إليه لبرميل الخام لا يفي لتلبية الاستحقاقات المالية الداخلية لدول مجلس التعاون، وهو أمرٌ يُفضي أيضاً إلى انحسارِ فرصِ تدفقِ الاستثماراتِ الخليجيةِ للمملكة، علماً بأن توقعات غالبية بنوكِ الاستثمارِ الكبرى تصُب في بقاءِ أسعارِ النفط عند نطاقاتٍ غير مرتفعة بسبب وفرة المعروض الناشئ عن تعاظمِ الإنتاجِ الأميركي.
ثامناً: نزوعِ تحويلاتِ المقيمينَ الأردنيينَ في دول مجلس التعاون الخليجي للاستقرارِ أو الانخفاضِ الطفيف، وهو أمرٌ ناجمٌ عن تراجعِ القُدرات الاقتصادية لتلك البلدان التي تحُث خُطاها لتوسيع نطاقِ توطينِ الوظائف، بما قد يؤثرُ سلباً على ميزانِ مدفوعاتِ المملكةِ على المدى المتوسط.
تاسعا: أكثرُ ما يشغَلُ الأوساطَ المحليةَ، هو قدرة مؤسسات البلادِ الرسميةِ على اجتثاثِ مظاهرِ الفسادِ في المملكةِ التي تحِل بالمرتبتين 57 و63 بين قريناتها على سُلّم مؤشري الشفافية والتنافسية العالميين على التوالي، إذ أنَّ هذا الموقع لا يُساعدُ كثيراً على بناء الثقة اللازمة لاستقطابِ المستثمرينَ العربَ و الأجانبَ الذين سيكفلون -عبر مشاريعِهم وتدفقات رؤوسِ أموالهم- خلقَ المزيدِ من فرصِ العمل.
فعلى الرغم من الجهود التشريعية التي يبذلها مجلس النواب الحالي -التي يستحقُ حملِ لقبِ الأكثر ضعفاً منذ بدءِ التجربةِ الديمقراطيةِ عام 1989- في سبيلِ بناء قوانين قادرة على كبح مظاهرِ الفسادِ والمحسوبيةِ وغيابِ العدالةِ في تحقيق تكافؤ فرصِ العملِ استناداً للكفاءةِ و الجدارة، غير أن كل ما سبق لم يرقَ عن كونه حبراً على أوراقٍ تتراكمُ في أرففِ وأدراج الأرشيف، إذ لم يستشعر المواطنون حتى اللحظة بأن هناك ثمارٌ يُمكن قطافُها بفضلِ تِلك المساعي التي توازيها أخرى ذات طابع حكوميٍ، والتي لم تحُل دونَ منع إجراء تعييناتٍ على أسسٍ وراثيةٍ كتِلك التي شهدها صندوق ادارة واستثمارِ أموالِ الضمانِ الاجتماعي مؤخراً، ويعيشها سِواهُ يوماً تلو آخر.
إن أراد مشرِّعُ ومنفذُ القرارَ في عمّان، العملَ بجديةً على محاربة مظاهرَ الفسادِ وتجلياته المتفرّعة عنه، فإن عليه القيامَ بذلك بشكل جذري وحازمٍ وحاسمٍ بما يعودُ بالنفع على الاقتصاد الأردني وضمانِ تحقيقِ العدالةِ الاجتماعيةِ، لا أن تظل تلك الرقابة موجهةً لصغارِ المفسدينَ ممن يمثّلون الحجرَ الذي يُلقى في النهر الجارف، إذ لا بد من عملية استئصال حقيقية لموائل الفساد الرئيسة التي تسببت تصرفاتها في إغراقِ البلاد بمديونية شارفت على 27 مليار دينار، وهو أمرُ يُعبّر عنه الشاعرِ الجاهليِ بالقولِ:” لا تـقـطـعَـنْ ذنــــب الأفــعــى وتُرسلها إنْ كنـتَ شهمـاً فأتـبِـع رأسـهـا الذنـبـا”.
عاشراً: استمرار انحدار جودةِ أداءِ ومخرجاتِ مؤسساتِ التعليمِ العالي الحكومية والخاصة على حدٍ سواء، وهذا ما يتطلبُ سرعةَ العملِ على دمجِ بعضِ الجامعاتِ لضمانِ الارتقاءِ بكفاءة مُخرجاتها وتحسينِ تصنيفاتها العالميةِ وصولا لتفعيل قدرتها على جلبِ الطلبةِ من مُختلفِ أرجاءِ المنطقة، فضلاً عن تمكينها من إعادةِ بثِّ الثقة بها في سوقِ العملِ المحليةِ أو تلكَ الخارجية.
حادي عشر: وهو المُهدد الذي قدّ يتسببُ بإشعالِ المنطقة برُمتها ، إذ يُخشى من تهوّرِ الإدارةِ الأميركيةِ بإقدامِها على تبنّي قرارِ نقلِ سفارةِ الولاياتِ المتحدةِ من تل أبيب إلى القدس المحتلة، وحينها سيكون الأردنُ بمثابةِ المُتضررِ الأولِ من جراء اتخاذِ هذه الخطوة التي أراها مستبعدة.
ثاني عشر: استمرارُ مسلسلِ رفعِ أسعارِ الفائدةِ الأميركيةِ استناداً لتأكيداتِ أعضاء مجلسِ الاحتياطِ الفدرالي المُتكررة، ما يعني حتميةَ نسجِ البنكِ المركزيِ الأردنيِ على ذاتِ المنوال، وهذه الخطوات مِن شأنها إضعاف فرصِ تحسّنِ نسبِ النموِ الاقتصاديِ وعرقلة النشاط التجاري، كما أنها ستزيدُ من العوائقِ التي تُكبّلُ السوقين العقاريةِ والماليةِ “بورصة عمّان”.

* عناصر القوى وملامح الفُرص:
أولاً: انحسار التواجدِ الجغرافيِ لـ “داعش” في العراق، إذ أن إزاحة التنظيمِ الإرهابيِ عن المنطقةِ الخاضغةِ المتبقيةِ تحت سيطرتهِ -التي تُمثّلُ 6.8% من مساحة البلاد- سيضمنُ اهتداءَ العراق تدريجياً الى طريقِ الاستقرارِ الأمنيِ والسياسي، بما يُعززُ من فرصِ فتحِ الحدودِ البريةِ (طريبيل- الرويشد)، وحينها يُمكن القولُ بإمكانيةِ استعادةِ الصناعاتِ الأردنيةِ حُضورَها على مراحل في هذه السوقِ الاستراتيجية، خصوصاً وأن النظام السياسي في بغداد – رغم كثافة الملاحظاتِ حياله- يُعير اهتماماً كبيراً للعلاقاتِ التجاريةِ والاستراتيجيةِ مع المملكةِ، وسيُسهم ذلك التقدم الأمنيُ في حصولِ انتعاشٍ لنشاطِ القطاعِ الصناعيّ المحليّ الذي سيكون بمقدورهِ استعادةِ قدرتهِ على خلقِ مزيدٍ من فرصِ العملِ.
ثانياً: نتيجة العلاقاتِ العراقيةِ المتشابكة والمُعقدة مع تُركيا، فإنه يُعتقد بأن الأردن سيكون بوابةً مفضلةً لوصولِ المنتجاتِ المختلفةِ لبغداد، وذلكَ مع تحسنِ القدراتِ الاقتصاديةِ للأخيرةِ التي تُواصلُ تنميةَ إنتاجها النفطي لتُصبح ثانية أكبر دولةٍ مُصدِّرة للخام بين نظيراتها الأعضاء في منظمة “أوبك”، بطاقة تصِل حالياً لنحوِ 4 ملايين برميلٍ يومياً.
بعد مضي أشهرٍ قليلةٍ من تغيّر المشهدِ الأمنيِ في العراق بحلولِ صيفِ العامِ الحالي، سيكونُ الحديثُ عن الشروعِ بتنفيذِ الاتفاقاتِ التي أبرِمَت الشهر الماضي بين عمّان وبغدادَ أمرا منطقياً ، مذكرات التفاهمِ تِلك انطوت على منحِ الشركاتِ الأردنية، الأولوية في جهودِ إعادة الإعمار وتجهيزِ المواد الغذائيةِ والزراعيةِ للسوقِ المجاورة، كما تضمنت التفاهمات، تسهيلَ إجراءاتِ تسجيل الدواء الأردني في بغداد، فضلاً عن تعاونِ البلدينِ في إنشاءِ منطقةٍ صناعيةٍ مشتركةٍ والأهم من كلِ ما تقدّم، هو البدء بمدِ أنبوبِ النفطِ الواصلِ بينهما بقيمة 5.6 مليار دولار وهو المشروع الذي يتضمنُ تصدير مليون برميل يوميًّا مِن الخامِ العراقي عبرَ الأردنِ، وهي الكمية التي تتضمن 150 ألفَ برميلٍ مخصصة لتشغيلِ مصفاة الزرقاء، أي ما يُلبي الحاجاتِ اليوميةِ للمملكةِ.
ثالثاً: سيضمنُ انجازُ مزيدٍ من الخطوات التنفيذيةِ بمشروع مرسى زايد، تحقيق مزاياً متعدِدةً على الصُعدِ اللوجستيةِ والعقاريةِ والسياحيةِ على المديين المتوسط و الطويل، كما ستسهم بزيادةِ فُرصِ تحوّل مرفأ العقبة، إلى وجهةٍ أساسيةٍ لدول الإقليم بفضلِ بنيتهِ التحتيةِ المتقدمة، بما يُثري نسبَ النموِ الاقتصاديّ للسنواتِ التالية.
رابعاً: قطعُ خطواتٍ مُهمةٍ في سبيلِ زيادةِ الاعتمادِ على مواردِ الطاقةِ الشمسيةِ النظيفةِ وذلك عبرَ زرعِ سلسلةِ مشاريعَ كبرى في جنوبي المملكة بالتعاون مع دولٍ شقيقة كالمملكة العربية السعودية ودولة قطر.. هذا الأمر سيستشعرُ مزاياه المواطنون تدريجياً على صعيدِ انخفاضِ تكلفةِ الوارداتِ النفطيةِ المرهقةِ لميزانيةِ الدولةِ ، إذ أنه سيضمن لاحقاً عدم لجوء الحكوماتِ مجدداً لجيوبهم لتمويلِ شراءِ مستورداتِ منتجاتِ الطاقة.
هذا ما ينسحبُ أيضاً على ما يُمكن قطاف ثِمارهِ من مشاريعٍ جرى انتظار ولادتها منذ سنواتٍ طويلة، وذلك مع قربِ الاستفادة من المنافعِ المصاحبةِ لإستثمارِ الصخرِ الزيتي، بالإستعانةِ بالتقنياتِ والخبراتِ الإستونيةِ والصينيةِ والروسيةِ.
خامساً: تفيدُ تقديرات وتوقعات صندوق النقد والبنك الدوليان بأن الإقتصاد الأردني لم ينمُ بأكثر من 2.3% طيلة العامِ الماضيِ مقابل زُهاء 2.7% للسنةِ الجارية، على أن يصِلَ لمستوى 3.1% خلالَ العامِ المُقبلِ وذلك مع بقاءِ الظروفِ الاقليميةِ المُحيطةِ على حالِها، غير أنّ تغيّرها للأفضل قد يُسعفُنا في عمليةِ إعادةِ النظر بتلكَ التقديراتِ على نحوٍ صعودي.
سادساً: على الرغمِ مِن الأحداثِ المُتفرقةِ والمُدانةِ التي شهدَها الأردنُ في الآونة الأخيرةِ من قبيل تلك التي عاشتها قلعةُ الكركِ ومُحيطِها، غير أن المملكةَ برهنت قدرتها على مواجهةِ أعتى أوجهِ التحدياتِ الأمنيةِ المتمخضةِ عن ظروفِ الإقليم، لترُسخَ من مكانَتها كوجهةٍ قادرةٍ على التعاطي بكفاءةٍ مع مُستجداتِ المنطقة، هذا الأمرُ سيكونُ بمثابةِ شهادةِ دعمٍ تُعززُ مستوى ثقةِ المستثمرِ والسائحِ القادمِ للبلاد، واللذانِ تكمُنُ أهميتهُما في رفدِ ميزانِ المدفوعاتِ وخلقِ فرصِ العملِ الكفيلةِ بمواجهةِ اشتداد أزمة البطالةِ.

سابعاً: يستحوذُ الشأنُ السوريُ على الاهتمامِ الأكبرِ من متابعةِ قطاعاتِ الرأيِ العامِ والأوساط السياسيةِ والاقتصاديةِ الأردنية، وفيما نأملُ أن يَنالَ أشقاؤنا الغايةَ التي من أجلِها ولِدت ثورتَهم، فإنَّ المعطياتِ الراهنةِ تفيدُ بجديةِ بعضِ القوى الفاعلةِ الرئيسةِ في وضعِ حدٍ لهذا المسلسلِ التراجيديِ الأكثر دمويةً في التاريخ البشري.
و بمعزلٍ عن غايةِ الضربةِ العسكريةِ التي سدّدتها الولاياتِ المتحدةِ لمنطِقةِ خان شيخون أثناء زيارة الرئيس الصيني لواشنطن، فإن إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب عاقدةَ العزمِ على إنهاءِ الأزمةِ السوريةِ وتهيئةِ الظروف اللازمةِ لعودة اللاجئين الى ديارهم، بحسب ما أكده حرفياً في مؤتمرٍ صحافيٍ مشتركٍ أقامه مع أمين عام حِلف شمال الأطلسي، أعقبهُ على الفورِ إلقاءِ قواتهما أكبرَ قنبلةٍ غيرَ نووية على أفغانستان.
حلحلةُ الملفِ السوري، إن حصلت في وقتٍ قريب، ستُسهمُ في تقليصِ الضغوطاتِ التي يُعانيها الاقتصادُ الأردنيُ ومؤسساتِهِ ، وسيكونُ ذلك عنواناً لمرحلة جديدة يتهيأ لولوجِها.
وبعد أن أصابَ المللُ والسأمُ قارئ هذه المقالةِ بفِعل طولِها وتكلفِّها نظراً لتعذّر جمع أبعادها في كلماتٍ محدودة، فإني بعد تقديمِ اعتذاري على ذلك، أجدُني أتوقع بدء تعافي الاقتصادِ الأردنيِ من بعض كبواتهِ الكثيرة، وذلك مع أفولِ شمسِ صيفِ العام الحالي..، والله أعلم.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.