صحيفة الكترونية اردنية شاملة

مجتمع النحنحة

0

تستحق “النحنحة”، في مفتتح أحاديثنا، التفاتةً من علماء الاجتماع أو النفس أو السياسة، وسيقعون بلا ريب على تطورات وتنويعات مستحدثة على نحنحتنا الأردنية المميزة.

لا زلت مقتعناً أن هذه الظاهرة فرضتها سطوة الأب في مجتمعنا، لذلك يضطر الأبناء وأبناء الأبناء وكل من هم تحت سلطته إلى التنحنح إذ قيّض لهم الحديث في أحد المجالس، خلافاً لجلسات النساء التي تقل فيها النحنحة بسبب عدم وجود سلطة مركزية لإحداهن على الأخريات.

غياب القمع الأمومي ربما ليس هو السبب الوحيد، فالمرأة لا تحتاج إلى حشرجة صوتها في الصدر لتلفت انتباه الجالسين، وهي تعتمد – حتماً – على أساليب مختلفة لجذب الأنظار إليها، ناهيك أنه قد تتكلم عدد من النساء، في الوقت نفسه، من دون أن يبدو هذا الأمر خروجاً على آداب المجالس ومدارسها التي لا يُفوّت الرجال فرصة للتأكيد عليها.

“أنا أتنحنح أنا موجود”.. لا تقتصر على جمْعات الرجال “المهمة” لاختيار مرشح عشيرتهم للانتخابات، أو تبادل آرائهم حول انقطاع المطر والعنف المجتمعي وخطة كيري بدءاً من افتراض الغضب الإلهي ووصولاً إلى المؤامرة الكونية التي تحاك ضدنا، إنما تتعداها إلى “نحنحات” معدّ لها مسبقاً ولا تفرضها حالات الإرباك والخجل.

فن النحنحة يحتاجه المواطن الأردني لترويج بضاعته في مناحٍ عديدة، فلا يمكن لمندوب مبيعات أن يكتفي بمهارات التسويق من ابتسامة ومظهر لائق و”حلاوة” لسان، بل عليه أن يتنحنح قبل اقتحامه خصوصية الأفراد والجماعات مثلما يفعل مسؤول عند رده عبر الإذاعة والتلفزيون على شكاوى الناس، أو إمام في افتتاح خطبة الجمعة التي قد يهاجم فيها المصلين لأن معاصيهم تعجّل قدوم الساعة، أو موظف بنك حين يحاول استدراجك إلى قرض شخصي أو سكني.

أشكال متجددة يقودك التمحيص بها إلى وجود انقسام طبقي بين جموع النحناحين، فنحنحة الفقراء وقاطني المناطق الشعبية تكون متدفقة وعلى سجيتها، بينما تبدو مثيلتها لدى أبناء الطبقة المتوسطة – خاصة المثقفين أو السياسيين منهم- كأنها تسبق حديثاً إذاعياً أو متلفزاً، وربما كانت النحنحة إضافة متكلّفة لدى الطبقات الغنية التي تستخدمها من باب مجاملة العوام.

تلمس أحياناً تسربها إلى المقالات الصحافية، إذ يصر كتّاب كثيرون على “اللت وعجن” بما يشبه النحنحة التي قد تُشكل كامل مقاله، وثمة نحنحة تلفزيونية يبرع بها مذيعون ثقيلو الظل يلوكون موضوعات تتملق جميع الرقابات والمرجعيات باستثناء المنطق.

نحنحة همّها الأول جذب الانتباه سعياً للإقناع في مدارسنا وجامعاتنا وبرلماننا وأحزابنا وإعلامنا ومؤسساتنا العامة والخاصة وفي الشارع، وترتكز على “البرطمة” بحرف الحاء: احححح، احممم… إلى درجة تشعرك أننا نمارس نحنحة لا تفضي لقول شيء.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.