صحيفة الكترونية اردنية شاملة

دبابات بائسة في ‘وادي شعيب’

0

أمس، كنت ألعب في الشارع مع أبناء حارتنا. نركل علباً، حجارة، خضروات لفظتها الدكاكين أو البيوت، ننطُّ على سور عال، نتسلق أشجار تينٍ عجفاء، نصرف فائض نشاط لا يجد مسرباً له إلا الشارع. فجأةً، سمعنا صوت طائرات. كان قوياً جداً. ثوانٍ ورأيناها، كانت طائرات حربية إسرائيلية (كيف عرفنا ذلك؟ لا أعرف) تحلِّق منخفضةً، الى درجة أن أحدنا سيتنطّع، لاحقاً، ويصف لنا شكل أحد الطيارين!
لم تُعِدْ الطائرات مرورها الغامض هذا. لكنَّ أجهزة الراديو التي تنطلق من عشرين جهة ظلت تواصل النشيد الذي يهزُّ الأعماق، وتقشعرُّ له الأبدان، حتى لأطفال مثلنا:
الله أكبر فوق كيد المعتدي
والله للمظلوم خير مؤيدِ
أنا باليقين وبالسلاح سأفتدي
بلدي ونور الحق يسطعُ في يدي
قولوا معي قولوا معي
الله الله الله أكبر
الله فوق كيد المعتدي.
بيد أنَّ ذلك لم يمنعنا من مواصلة اللعب. فالحربُ التي ينخرط فيها آباؤنا بعيدة جداً. الحرب الوحيدة التي نعرفها هي التي تدور في الإذاعة. وهذه تعلن انتصارنا على الأعداء.. شذاذي الآفاق على نحو متواصل.. بحيث صار علينا أن نرثي لحال الأعداء الزري.
***
كان والدي عسكرياً في اللواء 60 المدرع الذي يقوده الشريف الراحل، زيد بن شاكر، قائد الجيش الأردني اللاحق ورئيس الوزراء في أواسط التسعينيات، وقد تركت الاندفاعة الاسرائيلية السريعة في الضفة الغربية قوات هذا اللواء وراءها، فلم يصل إلينا خبر عنه، أسوة بعسكريين كثيرين نعرفهم، إلا بعد أيام من انتهاء الحرب.
كان جدي، وهو رجل مقدود من الفولاذ، وخيّال ماهر شارك في الثورة السورية ضد الفرنسيين، وانضم، باكراً، إلى قوات الأمير عبد الله بن الحسين، عندنا في البيت، كما دأب على فعل ذلك مرتين أو ثلاثاً في السنة، فذهبت معه للبحث عن والدي في سيارة لاندروفر عسكرية لأحد جيراننا، تحت إلحاح أمي وذعرها على مصير أبي.
عرفنا من جارنا العسكري أن بعض قوات اللواء ستين المدرع يتموضع في منطقة “وادي شعيب”. وبسؤال العسكريين، منكّسي الرؤوس الذين كنا نصادفهم على الطريق، تمكنا من الوصول إلى حيث توجد كتيبة والدي.
كان الوقت ظهراً، والشمس تصبُّ جام غضبها على الرؤوس. كأنَّ الهزيمة لم تكن تكفي وحدها عقاباً. وجدنا والدي بالقرب من إحدى الدبابات البائسة، المغطاة بشبك زيتوني اللون، لتضليل الطائرات التي لا أظن أن والدي سينسى أزيزها، وانقضاضها على آلياتهم المسكينة، ما تبقى له من عمر.
كان أشدَّ سمرةً من المعتاد. أنحف من المعتاد. أكثر تجهماً من المعتاد. حدثنا قليلاً عن الحرب وأخبارها. فهمت منه أنها كانت كارثة. فقد فقدنا عدداً كبيراً من الشهداء (إثنان من أولاد عمه، ولم نُرجع فلسطين. بل خسرنا ما تبقى منها. خسرنا القدس. لم نطل المقام. ولم يكن ذلك ممكناً في قطعة عسكريةٍ تلملم أشلاءها. كيف سنقنع أمي أننا رأينا أبي حياً؟ أخذنا ساعته دليلاً لا يرقى اليه الشك لطمأنتها!
***
أظن أنها كانت المرة الأولى التي عرفت فيها ماذا تعني الحرب، وأي فرق بينها وبين لعبة الحرب التي كنا نلعبها، نحن الأطفال، في الشارع، ونهزم فيها إسرائيل على إيقاع المارشات العسكرية، والأغاني الوطنية التي تنطلق من راديوهات البيوت. كم كان الجنود الإسرائيليون (كنا نسميهم يهوداً فقط) جبناء. رعاديد. شراذم. يستسلمون من مجرد رفع الصوت في وجوههم. وكما كنا شجعاناً. لا نهاب الموت. ننتصر عليهم بسهولة. فقط نرفع أصواتنا، ونصرخ في وجوههم، فينهارون راكعين!
نتيجة الحرب الظاهرة، بالنسبة لنا، كانت في جموع النازحين الذين صرنا نراهم في شوارعنا، ومدارسنا، وجوامعنا، ومباني المؤسسات الحكومية في منطقتنا. جيلنا لم يعرف النكبة، لكنه رأى، بعين الطفولة المتسائلة والمندهشة، “آثار العدوان” التي جلبت في ركابها أطناناً من علب السردين: صنع المملكة المغربية!

العربي الجديد

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.